توافق الليبراليون الاجتماعيون والاشتراكيون مؤقتًا في عهدنا الحالي، وهو توافق دعائي محض ويشابه الأداء الهوليودي سالف الذكر في الجزء السابق من المقال، إذ يستخدم هؤلاء الناس القضايا الإنسانية بشكلٍ ملتوٍ دائمًا كورقة ابتزاز تقذف أخلاق منافسيهم، بل يسعون لقوانين تعاقبهم، وهم يريدون اشتراكيةً أيدلوجيةً موحدة أوروبية، الآن ومنذ بداية الربيع العربي وموجات اللجوء، تتعرض التركيبة الديموغرافية في الدول الأوروبية للتغيير الجذري مستقبلًا، فهل هناك تخوف من تأثيرٍ أجنبي على الثقافة الوطنية، بالتأكيد نعم كأحد العوامل، لكن هذا ليس كل شيء، هذا ليس كل شيء!
هُنا يكمن جوهر هذا الموضوع بحقيقته، فالتهديد الآخر هو استخدام هذه القضية لإجبار الشعوب الأوروبية على قبول الدستور الموحد بالتهديد.
نقطة رئيسة، هي أن المهاجرين الشرقيين (عرب ومسلمين) جميعهم لا يحملون أي ثقافة أوروبية، وجميعهم لديهم ثقافة خارجية، ومهما تشابهوا أو اختلفوا فثقافتهم لا تتبع البلد المضيف، في حال حصولهم على جنسيات أو إقامات تؤهلهم للمشاركة بصنع القرار فهل نعتقد أنهم سيصوتون لصالح ثـقافة البلد المضيف! نقطة أخرى هي أن تغير القوانين الآن أصبح شبه ضروري وبشكلٍ متماثل بين الدول الأوروبية مراعاةً للقضايا الإنسانية.
بدون وجود أي مؤامراتٍ أو مخططاتٍ لعبت الصدفة دورًا كبيرًا بل مخيفًا، وأدت السلوكيات العشوائية غير المتزنة لدى اليسار والاشتراكيين وجماعات العدالة الاجتماعية للمخرجات الحالية، من الممكن الآن أن يُجبَر الأوروبيون في بلدانهم المختلفة على قبول دستورٍ موحد وقانونٍ عام موحد، بل ربما يذهبون بعيدًا لما يشبه “حرب العلمين قبل مئتي عام في أمريكا الشمالية”.
إن لسان الاتحاد الأوروبي الآن كما أنه يقول:
“ربما كنت أيها المواطن الأوروبي تستطيع رفض الدستور الموحد في السابق، لا توجد أداة للتشهير بك هُنا، لكنك لا تستطيع رفض قوانين تغير ثقافتك؛ جاءت هذه المرة مراعاةً لموجات اللاجئين المحتاجين المضطرين، ومن الممكن استخدام أداة الاتهام الآن”.
وعلى عكس المتوقع؛ فإن تقارب الثقافات الأوروبية لم يساعد في توحيد الدستور، إلا أن الاختلاف الكبير بين ثقافتي الأوروبيين والشرقيين هو العامل المسهّل، تصور لو قامت دولةٌ أوروبيةٌ في المستقبل بصياغة قوانين جديدة تراعي ثقافة شعبها الجديد الخليط، فهي حينها غير ملزمة بالثقافة المحلية، وتخيل دولةً مجاورةً يحدث معها نفس الشيء، حينها تستطيع الدولتان صياغة نفس الدستور لو شاءتا، فقد حدث تجاوز عقبة الثقافة قصرًا على شعبيهما، ولا ننسى أن ثقافة اللاجئين وإن اختلفت بينهم إلا أنها تتقارب عندما يحطون في أوروبا.
لهذا السبب أصبح موضوع تهمة الإسلاموفوبيا ورقة ابتزاز عاطفية يستخدمها اليسار والاشتراكيون، ومعهم الليبراليون الاجتماعيون والذين يريدون تحقيق الهدف قبل الوصول إليه.
هُناك من يرى أنه من الممكن لتحرير الاقتصاد وحده أن يخلق التآلف الاجتماعي بين هذه الدول لاحقًا، ولا يمكن حقن هذا التآلف حقنًا؛ بالغصب والإرغام، كما يفعل الاشتراكيون والليبراليون الاجتماعيون.
مستقبلًا قد يكون اللاجئون عامل التوحيد بين كل الدول الأوروبية، وربما يعتقد البعض أن هذا خبرٌ لطيف، لكن اليمين وكثير من المواطنين العاديين يَرَونه احتمالًا صادمًا، إذ يُفرض هذا الأمر فرضًا، وأيُّ طبيعة إنسانية من الممكن أن تتوافق مع ذلك! وكيف يعتقد البعض أن توحيد القانون الأوروبي يأتي بهذه الطريقة!
يحاول اليسار الاستفادة من كل ذلك دوماً، فهم يبحثوا عن الأصوات المخبأة في كل الزوايا، وهم يجدون الكثير منها ضمن اللاجئين، إن إقحام اللاجئين بشكلٍ أعمق في الدول الأوروبية ليحق لهم المشاركة سيعطي اليسار مزيدًا من الأصوات العربية والشرقية المهاجرة في الصندوق. يعاني اليسار من مشكلة ضعف التصويت لهم بين مواطنيهم، لا يعرف العرب والمسلمون والشرقيون ولا يهتمون بالفرق بين اشتراكي ويساري وليبرالي اجتماعي، سيصوتون لهم جميعًا ضد اليمين وضد الليبراليين الاقتصاديين، هم فقط يبحثون عن من يدعم حربهم على اليمين، ويُسَهِّل إجراءاتهم، وانتهى.
لكـــن
هكذا تسبب كل ذلك بخروج بريطانيا من الاتحاد وبموافقة شعبية، على عكس الهدف المتوقع، لم ترفض بريطانيا الدستور الموحد فقط، بل خرجت، ينوي اليمين الفرنسي ذلك علنًا، فقد قالت رئيسة الجبهة الوطنية في فرنسا اليمينية مارين لوبان طوال السنتين الأخيرتين أنهم سيعملون على خروج فرنسا.
لا تصرح السويد بشيء وهي شبه غائبة بتقديم الطروحات، وأكبر ما صرح به الحزب الاشتراكي الحاكم هو أنهم دعموا الفلسطينيين مرّة وينتظرون من الفلسطينيين إعطاء المقابل وأن يغيروا القانون الاجتماعي لصالح الحركة النسوية كرد عرفان، ثم اختفوا من المنتديات الفلسفية الأوروبية، على كل حال سيكون فكرهم كما هو دومًا. كما أن رجال الأعمال يهاجرون للخارج طوال العقد الأخير، وأهم وجهة هي الولايات المتحدة، وباتت السويد تُسمى لدى بعض الكتّاب الليبراليين بـ سعودية أوروبا بسبب تشدد الاشتراكيين اجتماعيًا مقابل خنوعهم للرأسمالية في الاقتصاد، فلا تستطيع الخروج ببرنامج آمن، كما تفعل السعودية، بتشددها الديني؛ وتطبيقها للنظام الرأسمالي بنفس الوقت.
يشكل الألمان المواطنون روح بافاريا الجديدة، وحسمت المجر والنمسا أمرهما شعبيًا وبشكلٍ واضحٍ تمامًا، هما ضد الأجانب الشرقيين بشكلٍ مطلق دون نقاش، ووجود قضية فساد على رئيس الحكومة اليميني؛ وإقالته، لن تغير شيئًا من ذلك، لقد صعد اليمين هناك بقوة وبكل الحالات.
الآن انتهت الانتخابات الدنماركية والبريطانية، وانتهت السنة، ويوجد اختلاف واضح بين خطاب اليسار في الدنمارك وباقي أوروبا، فما سبب اختلافه عن أقرانه؟
في دول أخرى كان اليسار متشددًا وساخرًا مستهترًا، يتصرف طوال الوقت وكأنه منتصر، لكنهم شاهدوا نتائج سياستهم العمياء، شاهدوها في خروج بريطانيا، كذلك أدركوا أن اليمين الفرنسي كان قاب قوسين من فوزٍ أكيدٍ في الرئاسة لولا ظهور مرشح مثل (ماكرون) في آخر لحظة ووصفه لنفسه بأنه غير يساري وغير يميني، وهذا ما ساعد على توجيه الناس لإمكانية انتخاب مرشحين خارج اليمين المتشدد طالما أنهم يظهرون بكونهم (لا يحبون اليسار)، وإذا توافر لديهم احترام للقومية.
في هذا العام طرح اليسار الدنماركي في حملته نداءات مساندة عاطفية للمسلمين والعرب، لكنه على النقيض أعلن عن حزمةٍ شديدة الإجراءات تجاه قضايا اللاجئين عمليًا، مما يخفف من كره الدنماركيين لليسار، وقد نجح الأمر في وقف النفور منهم، ينجح ذلك في الدنمارك فقط، فأحزاب اليسار فيها منذ زمن قريبة من القومية على عكس باقي الدول الأوروبية، وهي تتقارب مع اليمينيين في موضوع اللاجئين، لكن لا أعتقد أن ذلك سيفلح في دول أوروبية أخرى، فقد حرق اليسار الألماني والسويدي ورقتهما تمامًا بإعلامهما المجنون وفكرهما المنعزل، كما أنهما كانا طوال الوقت من أكبر مُنظري وقياديي الربيع العربي، على عكس اليسار الدنماركي، وربما لا يغفر الناس لهم لسنوات.
الخلاصة، ربما سينجح اللاجئون بما عجز عنه استفتاء الدستور الموحد 2004؛ كل ذلك بسبب اختلاف الأداة فقط، وربما لن يفرض اللاجئون دستورًا واحدًا فقط؛ بل ثقافةً جديدة ومختلفة عن حلم القارة بأكملها، لقد استخدم اليسار أداته المعهودة، هكذا يحاول الاتحاد الأوروبي تكبيل أعضاءه، وربما أيضًا من هم خارجه بهذه الطريقة، ولا أعرف كيف يكون من المقنع إجبار المواطنين الأوروبيين للخضوع بهذه الطريقة وهم أنفسهم من رفضوا ذلك في 2004!
محمد جبريل – رام الله – 14/12/2019
تدقيق لغوي: رأفت فياض.