in ,

مراجعة: رواية مذكرات من البيت الميت

بعد 10 سنوات من عودته إلى روسيا كتب دوستويفسكي روايةً باسم “مذكّرات من البيت الميَت“؛ التي وصف فيها تجربتَه الخاصّة في النِّفي والسجن بسيبيريا، ولقيتْ نجاحًا كبيرًا وسط المجتمع الروسيّ؛ فقد قِيلَ أنَّ الكاتب الكبير ليو تولستوي عندما قرأ رواية بيت الموتى بكى، وكان يقرأ الكتاب دائمًا، وفي كلّ مرّة يَشبع من البكاء ويقول لولا وجود كتابٍ مُقدّس لقُلت إنَّ هذا هو الكِتَاب المُقدَّس؛ بسبب طريقة الوصف والتّوثيق التي دوّن بها دوستويفسكي هذه التجربة في سيبيريا.

نشر دوستويفسكي روايةَ مذكّرات من البيت الميّت سنة 1862، وهذه الرواية عبارةٌ عن شبْه سيرةٍ ذاتية يَصِفُ فيها دوستويفسكي حياة السجن والمنفى في سيبيريا التي مرَّ بها.

وتُعدُّ هذه الرواية من أولى روايات أدب السجون في روسيا، وهي تصوِّر لنا ما شَهِده دوستوفسكي من فظائعَ في السجن، من وحشيّة الحُرّاس الذين تمتَّعوا بالقسوة، وتعذيب المساجين لمصلحتهم ومتعتِهم. وشرُّ المجرمين الذين كانوا يستمتعون بقتْل الأطفال، والقتل عمومًا، وكيف يوجد وسط هؤلاء المساجين وهذه البيئة نفوسٌ بريئة ولطيفة أيضًا، وسط كلّ هذه القذارة والشرّ، ويُوضّح فيها كيف أنَّ الحاجةَ إلى الحرية الفردية هي التي تجعلنا بشرًا أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. هذا الاعتقاد جعل دوستويفسكي في صراع مباشر مع المثقَّفين الإشتراكيين والرَّاديكاليين.

[better-ads type=”banner” banner=”288″ campaign=”none” count=”2″ columns=”1″ orderby=”rand” order=”ASC” align=”center” show-caption=”0″][/better-ads]

لاقتْ الرواية نجاحًا عظيمًا، وإقبالًا شديدً، فقد أحْدَثَتْ الرّواية أثرًا كبيرًا في النفوس، فرأى النُّقاد والقراء في كاتبها دانتي جديدًا هَبَطَ إلى جحيمٍ رهيب، لاسيما أنَّ هذا الجحيم موجودٌ في الواقع لا في خيال الكاتب وحدِه. فقد عُدَّت الرواية توثيقًا واقعيًا لِمَا يقع داخل السجون، وهذا العالَم الذي لم يكن يعرفه القرّاء من قبل. عالمُ هذا الخليطِ من السجناء والأعمال الشاقة التي يؤدونها، وفظاعة التعذيب والعقوبات التي يمرّون بها. صوَّرت الرواية مُختلف المهن التي كان السجناء يتعاطونها أيضًا؛ لتمضية وقتهم وكسْب المال من أجل شراء الخمر لتسلية أنفسهم، والمستشفى الكريه الذي يُعالَجون فيه، والمناسبات الخاصّة، واحتفالات السجناء بها، والشِّجارات وسط السجن، والمشاكل التي يُعاني منها الأشخاص داخل السجن. كلّ هذا يصفُهُ شخصٌ عاش بنفسه وسط هذا الجحيم الواقعيّ ذاته، رغم محاولتِهِ نَسْب هذه المُذِّكرات إلى رجل في الرواية سمَّاه ألكسندر جوريانتشيكوف، لكن هذا التَّمويه لم ينطلِ على أحد، وعُرِفَ أنَّه كان يُصوِّر تجربته الخاصّة.

كانت انطباعاته عن هذه التجربة السجنية فظيعةً، خاصةً افتقادُه للحرية التي رأى أنَّها تُعدُّ أكثر تعذيبٍ يُمكن حدوثه لأيِّ شخصٍ، وزائد الحياة المشتركة مع القتلة واللصوص، فقد قال في رسالةٍ له:

“كانت المُصاحبة المستمرة الدائمة للآخرين تفعل في نفسي فِعْلَ السُّمِّ، وما تألَّمْتُ من شيءٍ أثناء تلك السنوات الأربع على نحو ما تألَّمتُ من ذلك العذاب الذي لا يُطاق”

عند قراءَتك للرواية تَجِدُ كيف وصف العداوةَ الشديدة التي كان يشعرُ بها السُّجناء نحوه؛ لأنَّه ينتمي إلى طبقة السادة الذين يضطهدون أبناء الشعب ملَّاكين أو ضُبَّاطًا أو موظَّفين، وكيف شعر باغترابٍ شديد بسبب هذه المعاملة له خصوصًا، رغم جميع المحاولات لتغييرها.

وقد عاش كلَّ هذه السنوات وسط أشهر قُطَّاع الطُّرق والقتلةِ رؤساءِ العصابات الأكثر خطورةً في روسيا آنذاك؛ منهم قتلةُ الأطفال، والشيوخ ممّن يَجِدُ لذَّةً في اغتصاب وقَتْلِ الأطفال.

حاول دوستويفسكي الإجابة على العديد من الأسئلة النفسية والفلسفية عن طريق تجربتِه، فقد دخل إلى الأغوار العميقة للنَّفس البشرية، وسَبَرَ كلَّ ما في طبيعة الإنسان من أعماقَ لا يُسيطر عليها العقل، ولا يُدركها، ودرس نفسيّة الجلّاد، وقسوة قلوب هؤلاء السجناء الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم الفظيعة، وطرح عدَّة أسئلة أيضًا، حاول الإجابة عنها؛ طرح أسئلةً نحو ما هيَ الجريمة؟ وما هو قَدَرُ الإنسان الذي تجاوز الحدود المُحرَّمة؟

أخذ يُميّز وسط السِّجن بين الأشرار والأخيار شيئًا فشيئاً، عن طريق التعرّف عليهم، وملاحظتِهم. وبدأ يجد بينهم رجالًا يُمكن أن تفهم جرائمها، بل يُمكن حتى أن تُعذَرَ من وجهة نظرٍ أخلاقية. إنَّ هذه الرواية تذهب بنا للتعرُّف على أغلب هؤلاء السجناء، وجرائمهم، وسبب ارتاكبها، فهناك من قَتَلَ في سبيل الدفاع عن عائلته، وهناك من قتل دفاعًا عن حرِّيته وحياته.

وكان التَّأثير السياسيّ لهذه الرواية على المجتمع الروسي مهمًّا، فقد كتب الجنرال الأمير نيكولا أورلوف رسالةً للإمبراطور يرجوه فيها أن يُلغي شدّة العقاب الجسديّ؛ الذي وصفه دوستويفسكي في كتابه وصفًا حيًّا وقويًا. ونتج عن هذا إنشاءُ لجنةٍ خاصّة لحلِّ هذه المسألة، فكان هناك تيَّاران مُتعارضان؛ أحدهما يقول بإبقائها، والثاني يُنادي بإلغائها. وفي سنة 1863 تغلَّب التيار الثاني وأُلغيَتْ هذه العقوبات الرهيبة.

كانت هذه الرواية لتولستوي من أفضل ما قرأ، وعدَّها أفضل ما كَتَبَه دوستويفسكي.

  • إعداد: محمد مطيع.
  • تدقيق لغوي: غنوة عميش.

ما تقييمك لهذا الموضوع؟

كتب بواسطة محمد مطيع

خبير ومحلل اقتصادي، مهتم بالفلسفة، السياسة و الأدب الروسي. أكتب مقالات اقتصادية و سياسية بهدف إغناء المحتوى العربي و الشمال إفريقي بمواضيع و أفكار الحرية، الرأسمالية و الفردانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فيودور دوستويفسكي: حياته، أفكاره وتأثيره – الجزء الثاني

مراجعة: رواية مذكرات قبو / الإنسان الصرصار