يعتقد العديد من الناس أن اقتصاد السوق الحر أو الرأسمالية هي التي كانت السبب وراء أزمة سنة 1929 أو ما يُسمّى بـ الكساد الكبير، لكن ما لا يعلمونه أن السبب الرئيسي لهذه الأزمة كان مخالفًا تمامًا لما يعتقدونه. حدثت الأزمة بسبب التدخلات الحكومية في الاقتصاد والنظام المالي عن طريق الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من ناحية السياسة المالية وعن طريق التدخلات الحكومية في الاقتصاد من ناحيةٍ أخرى.
وهذا كان السبب في جعل الركود حادًا بدرجةٍ كبيرةٍ وصعب علاجه، بحيث انتهى بخلق حربٍ عالميةٍ ثانيةٍ تسببت في ملايين الوفيات.
أولًا يجب أن نعلم أن الأزمة أو الركود في علم الاقتصاد يُعتبر فصلًا عاديًّا وطبيعيًّا في الدورة الاقتصادية وعن طريق آليات السوق الحر تعود الأمور إلى مجراها ويعالج السوق التحديات والعوائق التي تشكلت، لكن الإشكال الكبير يوجد عندما تتدخل الدولة في الاقتصاد وتحول هذا الركود البسيط إلى ركودٍ حادٍّ يستمر لسنواتٍ عديدةٍ ويخلق مشاكل أكبر.
أزمة سنة 1929 كان لا مفر منها بسبب توسّع الائتمان المصرفي في جميع أنحاء العالم الغربي خلال سنة 1920، وهذه سياسة تبنتها الحكومات الغربية والأهم كان تبني الاحتياط الفيدرالي الأمريكي لهذه السياسة.
حصل هذا التوسع بسبب الفشل الرئيسي للعالم الغربي في العودة إلى معيار الذهب الحقيقي (المال المدعوم بالذهب Gold Standard) بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتالي أعطى مجالًا أكبر للسياسات التضخمية من قبل الحكومة.
تم توفير كمياتٍ ضخمةٍ من المال وائتمانٍ رخيصٍ في العشرينيات مما أدى إلى توسعٍ سريعٍ وخلق فقاعة ازدهارٍ وهميةٍ تؤدي دائمًا بشكلٍ تدريجيٍّ إلى ركودٍ قاتلٍ وحادٍّ وهذه الحالة أو الدورة تُسمّى بـ Boom and Bust Cycle، يجب على أيّ شخصٍ مهتمٍّ بالاقتصاد أن يفهم طريقة عمل هذه الدورة ومن يتسبب بها.
بعد هذا قام الاحتياطي الفيدرالي باعتماد سياسةٍ نقديةٍ صارمةٍ في الثلاثينيات مما أدى إلى حدوث ركودٍ اقتصاديٍّ قويٍّ. يقول ميلتون فريدمان حول أزمة 1929:
“يُعتبر الركود دورةً اقتصاديةً عاديةً. لقد عانينا من فترات ركودٍ متكررةٍ على مدى مئات السنين، ولكن كيف تحول [هذا الواحد] إلى ركودٍ حادٍّ، كان بسبب سياسةٍ نقديةٍ سيئةٍ”.
تحت نظام الاحتياطي الفيدرالي المركزي عانت أمريكا من أكثر الأزمات المالية والبنكية صعوبةً في تاريخها.
يوضح ميلتون فريدمان والاقتصادية آنا شوارز في كتابهما المشترك A Monetary History of the United States, 1867–1960 بأنه قبل تأسيس الاحتياطي الفيدرالي، الذعر والمخاوف البنكية من الأزمات كانت تُعالج عادةً من قبل البنوك بنفسهم، ويقومون بهذا على سبيل المثال من خلال اتحاداتٍ من المصارف الخاصة Urban Consortiums of Private Banks تُسمّى Clearinghouse.
إذا بدأت عند بنكٍ أو بعض البنوك مخاوف في مدينةٍ ما، تقوم Clearinghouse بالإعلان على تعليق/إيقاف المدفوعات المالية، مما يعني أن الودائع مؤقتًا لن تكون قابلةً للتحويل إلى نقدٍ وبعد هذا تقوم البنوك الأكبر حجمًا والأقوى بأخذ زمام المبادرة لحل المشكل. أولًا تحدد فيما إذا كانت البنوك التي كانت تحت هجمات التهديد متمكنةً وقادرةً على السداد وثانيًا تقوم بإقراض الأموال النقدية للبنوك التي تحتاج لـ سحب السحوبات.
على الرغم من أنه ليس حلًا مرضيًا تمامًا، لأن تعليق أو إيقاف المدفوعات لعدّة أسابيع كان مشقةً كبيرةً ويمثل صعوبةً على الناس، فقد كان لا بدّ منه لكي يوقف انتشار الذعر المصرفي المحلي و استمراره، كان لدى البنوك الكبيرة والقادرة على تسديد المدفوعات حافزٌ للمشاركة في علاج الذعر البنكي، فهي لا تقوم بالمساعدة من أجل مصلحة البنوك الأخرى أو شيءٍ من هذا القبيل، بل كان ذلك لأنها تعلم جيدًا أن الذعر غير المتحكم به سينتشر بشكلٍ كبيرٍ وبشكلٍ غير مسبوقٍ مما سيؤدي لتهديدٍ في نهاية المطاف ودائعها الخاصة. ومن الأمثلة على كيفية تسبب البنك المركزي في الأزمة:
كان القرار الذي قام به المجلس الاحتياطي الاتحادي من أجل رفع سعر الفائدة في عامي 1928 و 1929.
وقد قام مجلس الاحتياطي الاتحادي بذلك في محاولةٍ للحدّ من المضاربة في أسواق الأوراق المالية. وأدى هذا الإجراء إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة. ولأن معايير الذهب الدولية ربطت أسعار الفائدة والسياسات النقدية بين الدول المشاركة، فإن إجراءات بنك الاحتياطي الفيدرالي أدت إلى الركود الاقتصادي في الدول حول العالم، وكرر مجلس الاحتياطي الاتحادي هذا الخطأ عند الاستجابة للأزمة المالية الدولية في عام 1931.
في مؤتمرٍ شرفيٍّ بمناسبة عيد ميلاد ميلتون فريدمان التسعين في سنة 2002 قام بن برنانك Ben Bernanke رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي الأمريكي السابق بإلقاء خطابٍ بهذه المناسبة وقال:
“فيما يتعلق بالكساد العظيم، نحن من قمنا بذلك، نحن آسفون جدًّا، لن نفعل ذلك مرةً أخرى”.
البنك المركزي كان وسيبقى دائمًا مسبب الأزمات المالية بسبب سياساته التدخلية في النظام المالي التي تخلق ازدهارًا وهميًا وركودًا حادًّا.
كان الاقتصادي الكبير لودفيغ فون ميزس Ludwig Von Mises قد توقع الركود الاقتصادي قبل سنواتٍ عدةٍ، فقد لاحظ هذا في الذروة التي عرفها الاقتصاد الأمريكي في أوائل العشرينات بسبب توسع الائتمان المصرفي.
قام ميزس بتحذير الجميع حول الأزمة وكان مسلحًا بالنظرية الصحيحة الوحيدة للدورة الاقتصادية وكان من بين الاقتصاديين القليلين الذين تنبؤوا بالأزمة الاقتصادية، ولم يعره أحدًا أيّ انتباهٍ حول مخاوفه وإنذاراته، كان تلميذه فريدريك هايك أهم من قام بنشر أفكاره بين الاقتصاديين البريطانيين من بعد.
وفي ظل تفاقم الأزمة ذهبت أمريكا لاعتماد نظرية كينز الاقتصادية المحبوبة لدى السياسيين لأنها تمكنهم بالبقاء في السلطة وخلق الازدهار الوهمي. و كانت النتيجة هي الحرب عالمية الثانية.
لم يكن كساد 1929 سيطول حتى الحرب العالمية الثانية لكن السياسات الحكومية العامة التي قام بها الرئيس هربرت هوفر Herbert Hoover سببت في إطالة الكساد لمدةٍ طويلةٍ، هربرت هوفر كان المؤسس الفعلي لسياسة New deal وليس الرئيس روزفلت، وكان هذا بالأساس في استخدامه الهائل للدولة من أجل القيام بالتدخل في الاقتصاد مباشرةً، والذي كانت النظرية الميزيسية تحذر منه تمامًا، فما قام به روزفلت كان فقط إتمامًا لسياسة هوفر.
فبعد أشهرٍ من رئاسته بدأ الكساد العظيم وسياسته شهرت بالحمائية ودفاعه على الحواجز الخاصة في وجه التجارة الخارجية مع البلدان الأخرى وأول ما قام به بعد صعوده للسلطة هو فرض ضرائب على المنتجات الخارجية ظنًّا منه بأن هذا القرار سيؤدي إلى تحسين ومساعدة المزارع الأمريكي من خلال بناء وتدعيم السوق المحلية ورفع أسعار المنتجات المحلية.
قام الكونغرس بإصدار قانون سموت – هاولي Smoot–Hawley Tariff Act في سنة 1930 وكان هذا القانون وراء ارتفاعٍ ضخمٍ في التعريفات المفروضة على البضائع المستوردة وأدت لخفض التجارة الأمريكية الخارجية إلى النصف في وقتٍ حرجٍ للغاية حيث كان سوق الأسهم المالية متدهورًا بمعدلٍ أكثر من النصف بسبب تدخلات البنك المركزي التي تحدثنا عنها سابقًا وهكذا تفاقمت مشاكل الاقتصاد الأمريكي وزاد القانون الأمر سوءًا.
تم إصدار لائحةٍ لفرض الضرائب الخاصة على السكر، واللحم، والقطن، والجلد، والأحذية، والصوف، والتعريفات على أكثر من عشرين ألف مادةٍ مستوردةٍ.
كان المستهلكون والمشاريع التجارية الأمريكية وأيّ مستهلكٍ أمريكيٍّ للبضائع التي فُرضت عليها التعرفة الجمركية، من يدفع أكثر لحماية الصناعات التي شملها القانون.
لا يفهم السياسيون حقيقةً اقتصاديةً، إنك لا تستطيع خلق الثروة من خلال منع التجارة.
فالتبادل الحرّ هو الذي يخلق الثروة وكان هذا من الأسباب والإيجابيات التي ساهمت في تطور الجنس البشري من خلال السماح للناس بتبادل ما يصنعون لقاء ما يصنع الآخرون.
يشارك الكل في عملية التبادل ولكلّ طرفٍ معينٍ إمكانية التخصص فيما يستطيع إنتاجه بأقل كلفةٍ ممكنةٍ. فالتجارة قائمةٌ على مبدأ المكاسب المتبادلة من كلا الطرفين أما منع التجارة فليس من شأنه إلا أن يخلص المشاكل والصراعات ويمنع التقدم البشري.
الحمائية تؤدي إلى الفقر وتخلق الصراعات بين مصالح المنتجين والمستهلكين في كل بلدٍ من البلدان التي تطبقها كما أنها تخلق صراعات بين الأمم. فكانت من أسباب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
فبسبب هذا القانون تدهورت صادرات أمريكا بشكلٍ خطيرٍ. بحيث أصبح الأمريكيون يستوردون القليل من الخارج، ولم يعد بمقدور مموليهم في الخارج شراء الكثير منهم، والنتيجة تراجع صادرات أمريكا وحل الدمار بصناعات التصدير الأمريكية من خلال قانونٍ كان الغرض منه حماية الصناعات الأمريكية من المنافسة.
فبعد سنتين فقط من القانون انهار حجم التجارة العالمي بمعدل 70% وبانهيار التجارة تفاقمت البطالة والفقر بشكلٍ كبيرٍ وازداد التطرف وغضب الناس على الأوضاع فبسبب هذه السياسة الحمائية سُحِق الاقتصاد العالمي.
كان هذا الانهيار في التجارة محفزًا كبيرًا للبحث عن الاكتفاء الذاتي وهذا ما حاولت ألمانيا واليابان القيام به من خلال التوسعات الاستعمارية من أجل إيجاد الموارد والبحث عن الاكتفاء الذاتي.
يجب علينا التعلّم من أخطاء الماضي وأخطاء الآخرين إذا أردنا تقدم بلداننا وهذا سيكون من خلال تطبيق سياساتٍ اقتصاديةٍ علميةٍ وتجريبيةٍ التي من خلالها يمكن لنا خلق جو ومجتمعٍ حرٍّ، متقدمٍ ومزدهرٍ.
- إعداد: محمد مطيع
- تدقيق لغوي: رأفت فياض