في نهاية محادثة هاتفية محبطة استمرت ست ساعات مع قادة الاتحاد الأوروبي في نهاية شهر آذار (مارس)، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن جائحة فيروس كورونا Covid-19 تمثل تحديًا “لبقاء المشروع الأوروبي”. كشفت هذه الكلمات الدرامية، عن هشاشة الكتلة الأوروبية وظروفها الموجودة مسبقًا، مما يجعلها أكثر عرضة للأخطار الاقتصادية والسياسية الناتجة عن الجائحة وحساسية منها. لن يبقى الاتحاد الأوروبي كما هو بعد الخروج من هذه الحرب والأزمة الناتجة عنها.
نشأت الظروف السيئة الحالية للاتحاد الأوروبي بسبب عدة أزمات سابقة تسببت في عدة نقاط ضعف داخلية له:
(1) بداية من الأزمة المالية العالمية لعام 2008 م التي ضربت عدة دول أوروبية أشهرها ما حدث لليونان وتداعيه على باقي الاقتصادات الأوروبية.
(2) من ثم ظهرت في عام 2010 أزمة اليورو اللاحقة، التي كشفت عن عدم اكتمال الاتحاد النقدي الأوروبي التي ما زالت آثارها تظهر إلى يومنا هذا بسبب أن العلاجات التي اقتُرحَت وطُبِّقَت لتجاوز الأزمة كانت قاتلة وسيأتي اليوم التي ستؤدي بانهيار كلي للاتحاد النقدي الأوروبي. أدت أزمة اليورو هذه إلى تقسيم الاتحاد الأوروبي إلى قطبين؛ قطب دول الدائنين الشمالية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا ضد قطب معظم المدينين الجنوبيين من دول مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا.
(3) أزمة الهجرة الجماعية وموجة اللاجئين لعام 2015 بسبب الحروب الأهلية السورية والليبية وعدم الاستقرار المستمر في أفغانستان وأجزاء من أفريقيا. عجّلت هذه الهجرة الجماعية موجات الصدمة السياسية من كلتا الأزمتين بانهيار هياكل الأحزاب السياسية التقليدية لما بعد الحرب العالمية الثانية بسبب أن الناس طفح بهم الكيل من سياساتهم وهذا أعاد إحياء أحزاب اليمين الأوروبي.
(4) أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)؛ سيترك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فراغًا كبيرًا وضارًا بالاقتصاد الأوروبي وبميزانية الاتحاد، إذ إن بريطانيا تعد ثاني أكبر اقتصاد داخل الاتحاد و هذا شيء لا يستهان به، فقد يكون هذا بداية تفكك الاتحاد؛ فحتى الآن يمكن أن نلاحظ ظهور حركات وطنية في عدة دول أوروبية بمطالب مشابهة لبريكست.
مثل أي جزء آخر من العالم، تواجه أوروبا اليوم أزمة اقتصادية غير مسبوقة بسبب جائحة كورونا، وبشكل أخص دول أوروبا الجنوبية المتمثلة في (إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال واليونان)، ولكي تتجاوز هذه الدول الأزمة، طالبت مرة أخرى بمساعدات مالية من دول الشمال المتمثلة في (ألمانيا وهولندا والنمسا وغيرهم). لكن لم يكن رد فعل دول الشمال يعبر عن أي تضامن من جانبهم لمساعدة شركائهم الجنوبيين. وهذا ما يجعل هذه الأزمة حالة فريدة أظهرت لنا الانقسام السياسي الواقع داخل الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر وضوحًا، لأن دول الشمال رفضت مرة أخرى مطالب دول الجنوب في مشاركة المخاطر وتمرير المساعدات المالية لها.
أهم ما يقسم أعضاء الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو هو المال، إن ألمانيا وهولندا والنمسا وفنلندا – غيرُ راغبين في ضمان ديون أعضاء منطقة اليورو الآخرين في كل أزمة مالية أو اقتصادية. يريد الأعضاء الجنوبيون، بقيادة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، استخدام جائحة فيروس كورونا لإجبار الأعضاء الشماليين على قبول أداة مالية لتشارك الديون تسمى بـ “سندات كورونا Coronabonds” في محاولة لتقاسم المخاطر بين جميع الدول الأعضاء.
لماذا تعاني دول الجنوب دائمًا في الأزمات أكثر من شركائها الشماليين؟
نسمع عدة مرات من مهاجرين أفارقة ومن مختلف دول العالم أن الدول الجنوبية للاتحاد الأوروبي تعتبر حلم للهجرة بسبب كونها توفر العديد من الخدمات الاجتماعية المجانية للجميع من إعانات حكومية للعاطلين عن العمل وللمهاجرين، من تعليم وصحة مجانيين والعديد من الامتيازات الأخرى التي توفرها الحكومة للمواطنين. طُبّقت هذه السياسات مدةً طويلةً في هذه الدول، متناسين أحد أهم المبادئ الاقتصادية، وهو النظر إلى آثار المدى الأبعد لأي إجراء أو سياسة وليس فقط إلى الآثار المباشرة والقصيرة المدى، فالاقتصاد يتبلور في تتبع آثار تلك السياسات على كل الجماعات وليس على جماعة واحدة بعينها وعلى المدى الطويل وليس المدى القصير فقط.
أما بشأن القاعدة الاقتصادية الأخرى الذي تجاهلتها هذه الدول هي أنه من مستحيل اقتصاديًا أن تجمع دولة ما بين سياسات دولة الرفاه وسياسة الهجرة الجماعية، وهذه الدول تتميز بساكنة كثيفة إضافة لنسبة كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين.
يمكننا اليوم أن نرى نتيجة هذه السياسات الكينزية التي طبقتها الدول الجنوبية مدةً طويلة. تتميز جميع الدول الجنوبية بحكومات كبيرة تتدخل في النشاط الاقتصادي، وتفرض ضرائب جد مرتفعة وإنفاق حكومي مرتفع وسياسات اقتصادية كينزية تعرقل اقتصاد السوق الحرة، الأمر الذي تسبب في عجز حاد في الميزانية ونسبة ديون مرتفعة ونمو اقتصادي ضعيف جدًا. هذه الدول الفاشلة اقتصاديًا كالعادة دائمًا ما تعاني في جميع الأزمات التي تضرب الاتحاد الأوروبي، واليوم أضحت الأكثر تعرضًا للضرر من فيروس كورونا.
على العكس من دول الشمال التي تتمركز في ترتيب جد متقدم في تقرير الحرية الاقتصادية السنوي؛ تتميز دول الشمال باقتصاد أكثر حرية وإنفاق حكومي معتدل وضرائب منخفضة وسياسات اقتصادية تحترم السوق الحرة وقطاع الأعمال، وقطاع خاص قوي يساعدها في تجاوز جميع الأزمات الصعبة.
كي تتضح لك الفكرة، فلنقارن نسبة الديون بين دول الجنوب الأوروبي ودول الشمال الأوروبي.
نسبة ديون دول الجنوب الأوروبي:
- إيطاليا: نسبة الديون تساوي 134% من الناتج المحلي الإجمالي.
- فرنسا: نسبة الديون تساوي 98% من الناتج المحلي الإجمالي.
- إسبانيا: نسبة الديون تساوي 97% من الناتج المحلي الإجمالي.
- البرتغال: نسبة الديون تساوي 122% من الناتج المحلي الإجمالي.
نسبة ديون دول الشمال الأوروبي:
- هولندا 52% من الناتج المحلي الإجمالي.
- ألمانيا 62% من الناتج المحلي الإجمالي.
- النمسا 74% من الناتج المحلي الإجمالي.
- فنلندا 59% من الناتج المحلي الإجمالي.
تكشف الأزمات الاقتصادية عن نقاط الضعف البنيوية للدول وتزيد من تفاقمها، ثم إن التحليل الذي أجرته مجلة الإيكونوميست لخمسة عقود من بيانات الناتج المحلي الإجمالي يشير إلى أن معدلات النمو في البلدان الغنية تميل إلى التقارب في أثناء التوسع، مع امتداد حتى أضعف الاقتصادات، إلا أن الأداء يتباين بشكل ملحوظ في خلال فترات الركود؛ ففي النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان متوسط الفجوة السنوية بين معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلدان الغنية الأفضل أداءً والأعلى أداءً هو خمس نقاط مئوية، أما في الفترة الممتدة بين عامي 2008 و2012 وفي الركود الذي أعقب الأزمة المالية العالمية اتسعت الفجوة إلى عشر نقاط.
لن يكون الركود الاقتصادي الذي تعاني بسببه دول العالم اليوم مختلفًا؛ يجب أن تساعد ثلاثة عوامل في فصل النتائج الاقتصادية السيئة عن النتائج الفعالة: الهيكل والبنية الصناعية للبلد، وتكوين قطاع الشركات، وفعالية التحفيز المالي. استخدمت الإيكونوميست هذه المؤشرات لترتيب تعرض 33 دولة غنية للانكماش تقريبًا. يبدو البعض، مثل تلك الموجودة في جنوب أوروبا، أكثر عرضة للخطر من أمريكا ودول شمال أوروبا وكان ترتيبها كالآتي: اليونان الأكثر تعرضًا للخطر متبوعة بإسبانيا، ثم إيطاليا وفرنسا.
سندات كورونا Coronabonds وصراع القطبين
أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين Ursula von der Leyen أن أوروبا ستحتاج إلى نحو تريليون يورو (1.1 تريليون دولار) لمكافحة فيروس كورونا.
مع تسبب فيروس كورونا بقدر كبير من الدمار الاقتصادي في جميع أنحاء أوروبا ودفعه بالميزانيات العامة الهشة للبلدان الجنوبية إلى حافة الهاوية، ازدادت دعوة بلدان الجنوب الأوروبي بتدخل منطقة اليورو من خلال إصدار ديون يدعمها جميع الأعضاء.
أعلن الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا -وهو رجل غير معروف بالانجراف في الشفقة- في خطاب متلفز أن الاتحاد الأوروبي “يجب أن يتحرك قبل فوات الأوان”.
وقال وزير الخارجية الإيطالي إنزو أميندولا لمجموعة من الصحفيين: “نحن لا نطلب تبادلًا للديون، لكن تبادلًا لمخاطر الركود الحاد… لا يسعني إلا أن أبلغ عن مخاطر انعدام الوحدة”.
المنطق وراء ما يسمى بسندات كورونا بسيط: إذا كانت البلدان ذات الديون المرتفعة مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا قادرة على اقتراض الأموال بدعم من ألمانيا بمثابة ضامن لهذه الديون، فإن المستثمرين سيعتبرونها أقل خطر ائتمانيًا وسيطالبون بأسعار فائدة أقل، مما يجعل من السهل على تلك الدول الاستمرار في الاستفادة من سوق السندات. لماذا ألمانيا؟ لأنها تعتبر أقوى اقتصاد في أوروبا واقتصادها مبني كُليًّا على اقتصاد السوق الحرة الرأسمالي وتقييمها الائتماني جيد جدًا وغير مترتب ديون مفرطة كما هي حال دول الجنوب الأوروبي، لهذا؛ لا يوجد جهة سترفض إقراض ألمانيا المال.
بالنسبة لألمانيا وحلفائها الشماليين، فإن الفكرة غير جيدة بتاتًا، فعلى الرغم من أنهم وضعوا حزم إنقاذ ضخم لسكانهم؛ لم يبدوا أية رغبة تذكر لمساعدة جيرانهم الجنوبيين. ثم إن هناك العديد من الاقتصاديين الذين يشكون في قدرة إيطاليا على تسديد الديون، على الرغم من أنها تصر على تمكنها من سداد كل ما تقترضه وتطلب من شركائها في منطقة اليورو فقط أن يوقعوا على قروضها بشكل فعال بمثابة ضامن لها لا دفع الفاتورة.
يخشى الألمان أن يُترَكوا وحدهم ليتحملوا تسديد كل الديون، لأن جميع المؤشرات تُظهر عدم إمكانية دول الجنوب مثل إيطاليا من تسديدها. يجب ألا ننسى أيضًا الوعود التي قُطعَت للألمان حين تأسيس العملة المشتركة (اليورو) في التسعينيات من قبل المستشار الألماني السابق هيلموت كول Helmut Kohl، فقد دُفِع الناس لتقبُّل العملة المشتركة حينها من خلال الوعود بعدم دفع ديون دول أخرى “المجتمع لا يتحمل أي مسؤولية عن التزامات أعضائه”، وإذا ما قامت ألمانيا بانتهاك مبدأ تأسيس اليورو، سيعد هذا بمثابة خيانة تاريخية للشعب الألماني.
خلال أزمة اليورو التي بدأت في عام 2010 م، كان القلق من أن المستشارة أنجيلا ميركل سوف تتراجع عن وعود المستشار الألماني كول. آنذاك، كما هي الحال الآن، طالبت البلدان الأوروبية الجنوبية بسرعة “التضامن” من جيرانها الشماليين في شكل إصدار دين مشترك – وردّت ألمانيا وحلفاؤها بسرعة بـ “لا” في رفض قاطع لأي محاولة في طرح فكرة تشارك الديون وسندات كورونا.
يكرر التاريخ نفسه وما حدث بالأمس يعود ليحدث اليوم أيضًا؛ كان من السهل إلى حد ما أن ترفض ألمانيا ودول الشمال الأوروبية الدعوات للحصول على سندات وتشارك الديون، من خلال الإشارة إلى أن أمثال اليونان وإسبانيا ليس لديهم سوى اللوم فقط على المشاكل التي يواجهونها. بعد كل ما يحدث من طلبات دائمة من دول الجنوب من أجل أن يتم إنقاذهم أصبح يتمثل على أن دول الشمال الأوروبي كأستاذ يلقن تلاميذه درسًا بسبب عدم أداء واجباتهم المدرسية.
على الرغم من عدم وجود طريقة لقياس الخسائر العاطفية التي تمر بها الدول المتضررة بشدة مثل إيطاليا وإسبانيا بسبب الأزمة؛ فلا شك في أنها كبيرة وستشكل وعيًا جماعيًا في مختلف دول جنوب أوروبا لأجيال قادمة، وبالتحديد رد فعل جيرانهم الأوروبيين (الشمال الأوروبي).
ينبغي الأخذ بالحجج حول الخطر المعنوي Moral hazard جديًّا في مثل هذه الحالة التي تمر بها أوروبا، علمًا أن الخطر المعنوي يحدث عندما يكون لدى الفرد أو دولة في هذه الحالة حافز لزيادة تعرضهم للمخاطر لأنهم لا يتحملون التكاليف الكاملة لذلك الخطر. على سبيل المثال: عندما يكون الشخص أو دولة مؤمنًا عليه من طرف آخر، فقد يتحمل مخاطر أعلى مع علمه أن الشخص (أو الجهة) الذي يقوم بتأمينه سيدفع التكاليف المرتبطة به. قد يحدث خطر معنوي هنا عندما تتغير إجراءات الطرف المخاطر على حساب الطرف الذي يتحمل التكلفة بعد حدوث معاملة مالية.
الصراعات الحادة بين دول الاتحاد الأوروبي
بدلًا من إصدار الدين المشترك وسندات كورونا، تدفع ألمانيا وحلفائها الشماليين من أجل وضع سياسة إنقاذ أخرى، وتتمثل هذه المدفوعات في قروض إنقاذ بشروط صارمة. سيكون عملها عن طريق تقديم الدول -التي تحتاج إلى مساعد-ة طلباتٍ للحصول على قروض من الآلية الأوروبية لتحقيق الاستقرار (ESM)، وهي صندوق لإنقاذ الكتلة النقدية تبلغ تكلفته 500 مليار يورو.
لكنّ الشروط المتعلقة بهذه المساعدة صعبة جدًا؛ سوف تخضع البلدان المتقدمة للمساعدات الائتمانية للإشراف بما يسمى الهيئة الثلاثية – الترويكا Troika التي تمثل البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي – ولكي يُقبَل إعطاء القروض سوف تضطر هذه الدول إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية لاقتصاداتها.
لم يعجب ذلك القادةَ الإيطاليين الذين صرحوا أن الوباء خارج عن سيطرتهم وأنه لا ينبغي إجبار إيطاليا على قبول مثل هذه القيود؛ لكن عند فهم سبب فرض الإصلاحات الجذرية والهيكلية الصعبة على هذه الدول لكي تتلقى القروض، سنرى أن الأمر طبيعي؛ فمثلًا: من المتوقع في نهاية العام أن تصل ديون إيطاليا إلى 180% من الناتج المحلي الإجمالي، ويقر جميع الاقتصاديين باستحالة تمكُّن إيطاليا من تسديد الديون.
لديها حلان لهذه الكارثة:
– الحل الأول: أن تقوم إيطاليا برفع الضرائب لمدة طويلة كي تتمكن من استرداد الديون، لكن؛ نجد أن لديها أصلًا نسبة ضرائب جد مرتفعة ويمكن لأي اقتصادي عاقل أن يقر بأنه من الجنون رفع الضرائب أكثر؛ لأن ذلك سيزيد من تأزّم إيطاليا ومن تضرر اقتصادها أكثر مما هو متضرر.
– الحل الثاني: هو أن تقوم إيطاليا بتسديد الديون عن طريق نمو اقتصادي مستدام سيحتاج إلى إصلاحات اقتصادية هيكلية، الأمر الذي لم يُعمَل به في الـ 30 سنة السابقة، لهذا سيُفرَض على إيطاليا تطبيقَ هذه الإصلاحات إذا أرادت أن تحصل على قروض.
كانت جميع الدول الأوروبية الجنوبية جد غاضبة من رد فعل دول الشمال على مطالبهم وظهر هذا جليًا في الاجتماع؛ “ألا تفهمين حالة الطوارئ التي نمر بها؟” هكذا كان رد فعل رئيس الوزراء الإسباني الغاضب بيدرو سانشيز موجها لأنجيلا ميركل في خلال قمة الاتحاد الأوروبي في أواخر شهر آذار (مارس). وقد كان جواب القائدة الألمانية بأنها تفهم ما يحدث ولكن ستظل سندات كورونا وتشارك الديون خارج طاولة المفاوضات.
في أثناء المؤتمر الأوروبي لقادة الاتحاد المنعقد في جلسة حية عبر الإنترنت، وقف وزير المالية الهولندي Wopke Hoekstra أمام الكاميرا بغضب وقال: “إذا لم نحترم بعضنا بعضًا … فلا أفهم ما هي الحاجة لأي اتحاد أوروبي”، وجه هذا الخطاب إلى دول الجنوب في انتقاد تام لسياساتهم الاقتصادية المتهورة والإنفاق الحكومي المرتفع، الأمر الذي يعتبره وزير المالية الهولندي شيئًا “مثيرًا للاشمئزاز” و”وضيعًا جدًا” لأنه بسبب أفعالهم وسياساتهم الاقتصادية السيئة، يتخبط الاتحاد الأوروبي في أزمات مالية واقتصادية طوال سنوات عدة بدون أي تحسن.
وخرج وزير المالية الهولندي في الاجتماع باقتراح أن تعدّ المفوضية الأوروبية تقريرًا للأسباب التي جعلت من دول الجنوب سهلةَ التأثر بهذه الأزمات دائمًا وللتساؤل عن سبب عدم توفرها على الحيز المالي الكافي للتغلب على الأزمة الحالية. غير أن هذا الاقتراح جلب عليه عاصفة من النقد والشتم من طرف قادة دول الجنوب الأوروبي. وقد رد رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا على هذا بالقول: “إن هذه التفاهة المتكررة تقوض تمامًا روح الاتحاد الأوروبي”، ووصف الاقتراح بأنه “بغيض”.
ذكّر تعليقُ الوزير الهولندي دولَ الجنوب بتعليق وزير المالية الهولندي السابق يرون دايسيلبلوم Jeroen Dijsselbloem في عام 2017 عندما قال إن دول المنطقة الجنوبية لا يمكنها “إنفاق كل الأموال على المشروبات والنساء ثم طلب المساعدة”.
وعند تحليل ما قاله، سنجد أن انتقاده في محله، ويجب على دول الجنوب الأوروبي أن يسمعوا خطابه الصريح ويتقبلوه بصدر رحب لأن سياساتهم الاقتصادية والمالية السيئة هي سبب الأزمات وهي سبب طلبهم الدائم في تحميل دول الشمال لديونهم ومساعدتهم لتجاوز المحن الاقتصادية التي تنتجها السياسات الكينزية السيئة؛ لكن دول الجنوب كالعادة بدلًا من تحسين سياساتها شرعت بالتباكي وإلقاء التهم.
دائمًا ما اشتكت الدول الأكثر ثراءً مثل هولندا والنمسا وألمانيا (القطب الشمالي)، منذ فترة طويلة من أن جيرانها في الجنوب لا يغتنمون الأوقات الجيدة للنمو الاقتصادي القوي لترتيب الأوضاع في بلدانهم وميزانياتهم، ويؤكدون أن ليس ذنبهم كون هذه الدول تفتقر إلى السبل اللازمة لخوض طريقها للخروج من أزمة. لطالما كانت حجة “الخطر المعنوي Moral hazard” أي عمليات الإنقاذ المطلوبة من الدول الجنوبية تشجع على المزيد من السلوك السيئ في عدم تحمل المسؤولية والقيام بأخذ احتياطات حول الأخطار المستقبلية.
تفشي الشكوكية الأوروبية* بين دول الجنوب الأوروبي:
قام رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي Giuseppe Conte، بتوجيه حديث للتلفزيون العام الألماني طالبًا من الألمان عدم التغاضي عن البعد التاريخي لما يحدث في جميع أنحاء القارة.
قال كونتي “نحن لا نكتب صفحة دليل اقتصادي بل نكتب صفحة كتاب تاريخي؛ تحتاج أوروبا إلى إثبات ما إذا كانت دار مشتركة لجميع المواطنين الأوروبيين إذا ما واجهوا تحديًا تاريخيًا؛ ستنجح أوروبا في تقديم استجابة مناسبة ترقى إلى مستوى المهام التي أنشأها الآباء المؤسسون للاتحاد الأوروبي: شومان و، أديناور و دي جاسبري “.
جاءت المقابلة في وقت الذروة بعد رسالة مفتوحة من مجموعة من رؤساء البلديات الإيطاليين وكبار السياسيين نُشرت في طبعة من نشرة العديد من الصفحات الألمانية، مطالبًا فيها ألمانيا بقبول تشارك الديون.
وأشار الموقعون إلى أن إيطاليا وإسبانيا وبلدان أخرى قد نسيت وعفت عن الكثير من الديون المستحقة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وكتبوا: “أيها الأصدقاء الألمان الأعزاء؛ التذكر يساعد المرء على اتخاذ القرارات الصحيحة”. لكن رغم كل هذا، فإن الألمان، بدعم من الهولنديين والنمساويين والفنلنديين، يتمسكون -بثبات- برفضهم لمثل هذه السياسة المالية التي ستكون كارثية على الاتحاد الأوروبي أكثر مما هو في حالة كارثية ماليًا.
في الجنوب، أثار الحلف الشمالي استياءً طويلًا من الطريقة التي عوملت بها دول البحر المتوسط في خلال أزمة اليورو إلى السطح والآن أصبح الاستياء مضاعفًا، ما سبب قلقًا أكثر لدى البعض من رد الفعل السياسي بعد الأزمة، والذي يتوقع عديد من الخبراء أنه سيساعد في ارتفاع شعبية المشككين في الاتحاد الأوروبي أي الذين يعتبرون الاتحاد الأوروبي مشروعًا فاشلًا ويجب الخروج منه.
برزت في إيطاليا، التي تطفوا على بحر ديون يزيد عن 2.5 تريليون يورو، الشكوكية الأوروبية كقوة قوية حتى قبل الأزمة الحالية، وجهها إلى حد كبير ماتيو سالفيني؛ نائب رئيس الوزراء السابق الذي يقود عصبة الشمال اليمينية.
في أوائل أبريل ، وجد استطلاع واحد أن 53% من الإيطاليين كانوا على استعداد لمغادرة الاتحاد النقدي اليورو أو الاتحاد الأوروبي. ولقد أرغم هذا جوسيبي كونتي رئيس الوزراء غير الحزبي على تشديد موقفه واصفا آلية الاستقرار الأوروبي بأنها “غير كافية على الإطلاق“، في إشارة إلى التقشف الذي فرضه الدائنون الأجانب على بعض دول منطقة اليورو مثل اليونان.
ويخشى العديد من الإيطاليين أن تجلب قروض آلية الاستقرار الأوروبي شروطًا قاسية وغير محتملةـ رغم أن ألمانيا وعدت بالتساهل. أيضًا هناك خوف من تراكم الديون على الميزانية العمومية، وقد حاولت الحكومة الإيطالية التفاوض على هذا الاقتراح في السابع من نيسان (أبريل)، وظهر ماتيو سالفيني على شاشات التلفاز متوجهًا للشعب الإيطالي لإدانة “المرابين” في برلين وبروكسل.
اختتمت قمة المجلس الأوروبي الأخيرة في 27 آذار (مارس) دون اتخاذ قرار بشأن الاستجابة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي لوباء الفيروس التاجي. فشل رؤساء دول الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص في التوصل إلى اتفاق بشأن ما يسمى بـ “سندات كورونا” – أو الديون المشتركة التي ستكون جميع دول الاتحاد الأوروبي مسؤولة عنها بنفس القدر – لتغطية تكاليف أزمة الهالة. ورفض هذا القرار كان واضحًا من جانب دول الشمال الأوروبي.
بعد مرور شهر على الاجتماع السابق بين قادة الاتحاد الأوروبي، وقبل يوم من الاجتماع المفترض عقده يوم 23 نيسان (أبريل). خرج ماتيو سالفيني بتصريح للإيطاليين أن “الوقت قد حان لإعادة التفكير في القواعد الأوروبية وفي الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي”.
في إشارة منه إلى رفض دول شمال أوروبا لسندات أوروبية أو سندات كورونا المشتركة لمواجهة الأزمة المالية الناجمة عن فيروس كورونا، قال سالفيني إن “هناك نوعان من الاتحاد الأوروبي: أوروبا الحقوق في الشمال (ألمانيا وهولندا والنمسا) وأوروبا الواجبات في الجنوب”، وأضاف: “هذا كله لا يتناغم لأننا نعطي الكثير من المال للاتحاد الأوروبي”، ثم إن إيطاليا هي “القوة الصناعية الثانية في القارة العجوز”.
وكان رئيس وزراء إيطاليا جوزيبي كونتي قد كرر مطالباته في وقت سابق للاتحاد الأوروبي بإصدار سندات مشتركة لمنطقة اليورو لإظهار تضامن التكتل في مواجهة أزمة فيروس كورونا المستجد لكن ما زال الموضوع خارج طاولة المفاوضات.
رئيس الوزراء الاشتراكي الإسباني، بيدرو سانشيز، هو أقل عداءً من كونتي لوزراء الخارجية الأوروبيين، لكنه تخلى أيضًا عن الهدوء النموذجي لإسبانيا محذرًا من أن استبعاد سندات كورونا من طاولة المفاوضات من شأنه أن يخاطر بمصداقية الاتحاد الأوروبي في دولة مثل بلده. وفي خلال أزمة اليورو، حين كان من الضروري إنقاذ البنوك الأسبانية بواسطة آلية الاستقرار الأوروبي، أدرك الأسبان أنهم كانوا يدفعون ثمن عدم مسؤوليتهم المالية عن طريق تضخيم فقاعة العقارات. ولكن هذه المرة يظنون في مخيلتهم أن سبب وقوع الأزمة لديهم ببساطة هو سوء الحظ، وسوف يعمل رفض الأعضاء الأوروبيين للمساعدة على تحفيز مشاعر الشكوكية الأوروبية في أهمية الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيساعد الأحزاب التي تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى اليسار واليمين في تمرير مخططاتها السياسية.
إذًا؛ إما أن تقرر بلدان الشمال الأوروبية أنها سوف تتحمل التكاليف اللازمة لتجنب انهيار إيطاليا خارج منطقة اليورو، أو ستكون النتائج السياسية والاقتصادية وخيمة على الكتلة الأوروبية؛ فقد بدأت التهديدات بالخروج من الاتحاد الأوروبي أكثر واقعية اليوم وأكثر انتشارًا في صفوف المواطنين والسياسيين من الدول المتضررة من هذه الجائحة. بدلًا من التركيز على تفاصيل كيفية تقديم المساعدات، فقد ناشد الزعماء في مختلف أنحاء جنوب أوروبا شركاءهم في الشمال أن يدركوا أن ما أصبح على المحك الآن هو مستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته، وقال رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا بصريح العبارة لباقي القادة الأوروبيين: “إما أن يفعل الاتحاد الأوروبي ما يتعين عليه أن يفعله أو ينتهي”.
نتائج الاجتماع الأخير لقادة الاتحاد الأوروبي:
قرر رؤساء دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 مساء الخميس 23 نيسان (أبريل)، تطوير “صندوق إنعاش” لدعم الحكومات ذات الحيز المالي المحدود أي دول الجنوب الأوروبي، إلا أنهم لم يعطوا أي إشارة حول حجم هذا الصندوق وما إذا كان سيتألف من قروض أو منح.
تخشى الجهات الفاعلة في السوق ما إذا كان الصندوق يقدم قروضًا فقط لأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم أكوام الديون الحكومية، غير أن بعض الحكومات في أوروبا تصر على أن هذا هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا.
صرح المستشار النمساوي سيباستيان كورز بعد الاجتماع:
“إن النمسا مستعدة أيضًا لإظهار التضامن لدعم انتعاش اقتصادياتنا، يجب أن نفعل ذلك من خلال القروض؛ أما فكرة تبادل الديون أو سندات اليورو هي شيء غير مقبول بتاتًا”.
تحاول الدول المثقلة بالديون، مثل إيطاليا، بالضغط للحصول على منح بدلًا من قروض، لكي لا تتأثر مواردها وميزانياتها المالية؛ كُلِّفَت المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي، بتقديم فكرة لصندوق الإنعاش بحلول أوائل شهر أيار (مايو).
سيكون الاقتراح جزءًا من خطة ميزانية الاتحاد الأوروبي الأوسع للفترة ما بين عامي 2021 و 2027 م.
يهدف صندوق الإنعاش إلى التعامل مع التأثير الاقتصادي لفيروس كورونا على المدى المتوسط إلى الطويل. في الوقت الحالي؛ يشتري البنك المركزي الأوروبي السندات الحكومية بوتيرة تبلغ نحو 6 مليار يورو (6.46 مليار دولار) يوميًا، بالإضافة إلى إجراءات التحفيز الأخرى لدعم الإقراض المصرفي.
وقد صمم وزراء مالية منطقة اليورو أيضًا على حزمة مالية بقيمة 540 مليار يورو، والتي ستكون متاحة بدءًا من يونيو فصاعدًا، وحذرت كريستين لاجارد من أنه في سيناريو معتدل، قد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنحو 5%، وفي السيناريو المعتدل بنسبة 9%، وفي الحالات الأكثر خطورة بنسبة 15%.
النظام المالي الأوروبي في ورطة**:
هناك مشكلة في الاتحاد النقدي الأوروبي المستمرة منذ زمن في النمو بهدوء: يعاني الاتحاد الأوروبي بسبب أزمة مصرفية لم تحل منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 م، وهذه ليست مشكلة صغيرة. ففي كانون الثاني (يناير)- 2018، بلغ مجموع الميزانيات العمومية لنظام اليورو (البنوك المركزية الوطنية والبنك المركزي الأوروبي) 30 تريليون يورو أي نحو 291% من الناتج المحلي الإجمالي.
البنوك الأوروبية في ورطة لعدة أسباب:
أولًا؛ أصبحت اللوائح المصرفية أكثر صرامة بعد الأزمة المالية، ونتيجة لذلك ارتفعت التكاليف التنظيمية وتكاليف الامتثال بشكل كبير. يتعين على البنوك اليوم تلبية مطالب السلطات الوطنية، وهيئة البنوك الأوروبية، والآلية الإشرافية الموحدة، والهيئة الأوروبية للأوراق المالية والأسواق والبنوك المركزية الوطنية، ونظرًا لكونها متماثلة بنسبة 4% من إجمالي الإيرادات حاليًا، فمن المتوقع أن ترتفع تكاليف الامتثال إلى 10% من إجمالي الإيرادات حتى عام 2022.
ثانيًا؛ هناك مخاطر خفية في الميزانيات العمومية للبنوك الأوروبية، فيمكن بسهولة اكتشاف وجود شيء مريب في أصول البنوك الأوروبية عند مقارنة القيمة السوقية للمصارف مع قيمتها الدفترية Book Value، معظم البنوك الأوروبية لديها نسب سعر إلى القيمة الدفترية أقل من 1 %.
مع نسبة سعر إلى القيمة الدفترية تساوي أقل من 1، فشراءُ مستثمر بنكًا بالأسعار الجارية وتصفية أصوله بالقيمة الدفترية سيمكنه من تحقيق أرباح، لكن؛ لماذا لا يقوم المستثمرون بذلك؟ ببساطة لأنهم لا يصدقون القيمة الدفترية لأصول البنوك؛ فالأصول تحظى بتقدير متفائل للغاية في نظر المشاركين في السوق، وبالنظر إلى أن نسبة الأسهم (أو حقوق المساهمين- Equity Ratio) الأسهم مقسومة على إجمالي الميزانية العمومية) للقطاع المصرفي الأوروبي تبلغ 8.3% فقط، فإن التقييم المنخفض للأصول يمكن أن يؤدي إلى تبخر الأسهم بسرعة.
ثالثًا؛ أسهمت أسعار الفائدة المنخفضة في زيادة أسعار الأصول؛ ارتفعت أسعار الأسهم والسندات بسبب السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي، مما أدى إلى أرباح محاسبية للبنوك. وبالتالي، دعمت السياسة النقدية بشكل مصطنع الأرباح المصرفية في خلال السنوات الأخيرة.
رابعًا؛ وفقًا للقروض المتعثرة للبنك المركزي الأوروبي (NPLs) أي القروض التي تخلف المقترضون في دفعها فهي تبلغ 759 مليار يورو أي 30% من أسهم البنوك.
خامسًا؛ هناك المزيد من المشكلات تنتظر البنوك؛ بسبب أسعار الفائدة المنخفضة بشكل مصطنع، انخفضت معدلات الإعسار Insolvency ratesP ففي ألمانيا في عام 2003، أصبحت 39.470 شركة (1.36% من الشركات القائمة) معسرة، وبحلول عام 2017 انخفض العدد إلى 20200 شركة (0.62%).
الشركات التي كانت ستضطر إلى الإغلاق سيمكنها البقاء على قيد الحياة الآن بسبب أسعار الفائدة القريبة من الصفر؛ لكن يجب ألا ننسى أن بقائهم لا يخلو من التكلفة لأنهم يمتصون الموارد التي يمكن استخدامها في مشاريع أخرى. بسبب سياسة معدل الفائدة الصفرية التي يطبقها البنك المركزي الأوروبي، يؤجَّل التصريح بـ 10000 حالة من حالات الإفلاس كل عام، مما يضيف إلى المخزون المتزايد من الشركات المفلسة التي يتم إبقاءها على قيد الحياة من خلال أسعار الفائدة الصفرية ويسمى هذه النوع من الشركات بـ Zombie Companies. تساهم الشركات من هذا النوع في نمو هزيل لأنها تستخدم وتضيع الموارد التي يمكن استخدامها بشكل أكثر إنتاجية في خطوط إنتاج أخرى. بمجرد أن تزيد أسعار الفائدة بسرعة، ستنهار هذه الشركات وستعود معدلات الإعسار إلى مستوياتها الطبيعية مما يؤدي إلى خلق مشكلات لدى البنوك.
سابعًا؛ لا تزال البنوك في منطقة اليورو مرتبطة بشكل وثيق بحكومتها، واعتبارًا من كانون الثاني (يناير) 2018، كانت بنوك منطقة اليورو تحتفظ بـ 3.536 مليار يورو من الدين الحكومي على دفاترهم الحسابية التي تبلغ 13% من مجموع ميزانيتها العمومية. عند الركود الاقتصادي المقبل (وهو الذي تعيشه اليوم الدول الأوروبية بسبب الركود الاقتصادي الناتج عن جائحة كورونا)، سوف تلوح في الأفق مرة أخرى أزمة الديون السيادية وآنذاك يمكن للبنوك أن تتوقع خسائر في محفظة الديون السيادية.
عند زيادة أسعار الفائدة في المستقبل ستواجه البنوك مع العديد من الصعوبات: أولًا؛ ستزداد القروض المتعثرة وستفلس شركات الزومبي التي تحدثنا عنها. ثانيًا؛ ستصبح قروض البنوك ذات الفائدة المنخفضة على المدى الطويل أكثر صعوبة في إعادة تمويلها بشكل مربح. ثالثًا؛ ستنخفض أسعار الأصول مما سيؤدي إلى خسائر كبيرة، وهنا سوف تقع الحكومة في مشكلة أيضًا.
نتيجة لهذه الخسائر، ستضطر البنوك إلى تقييد الائتمان مع انكماش أسهمها، ومن سخرية القدر أن سياسة سعر الفائدة الصفرية التي يتبعها البنك المركزي الأوروبي والمصممة لتعزيز التوسع الائتماني ستؤدي في النهاية إلى انكماش الائتمان. سيكون هناك ركود حاد وانخفاض في المعروض النقدي. لن تؤدي هذه الأزمة إلى تعريض النظام المصرفي للخطر فحسب بل واليورو أيضًا؛ لأن حكومة منطقة اليورو المضطربة ستحاول إعادة رسملة بنوكها من خلال تسييل Monetization الديون الصادرة حديثًا.
الخلاصة:
ما يمكن أن نستخلصه من هذه الجائحة، هو أنها أظهرت لنا بشكل واضح الفروقات الكبيرة بين دول أعضاء الاتحاد الأوروبي وعلمتنا درسًا اقتصاديًا جيدًا يتمثل في أن الدول التي تنفق بشكل مرتفع ونسبة انفاقها الحكومي مرتفعة عن المطلوب أو المحدد علميًا تعتبر دول فاشلة اقتصاديًا وفقيرة مقارنة مع دول الشمال الأكثر احترامًا للسوق الحرة وإنفاقهم الحكومي منخفض ومتحكم فيه.
اشتكت دول الشمال مثل ألمانيا والنمسا وهولندا طيلة مدة طويلة من سياسات دول الجنوب الاقتصادية غير المسؤولة وها نحن اليوم نرى أن شكواهم كانت في الحقيقة نصائحَ لم تجد آذانًا صاغية.
المحركان السياسيان الرئيسان للكتلة -فرنسا وألمانيا- منقسمان بعمق على الطريق الاقتصادية للمضي قدمًا: باريس تدافع عن الجنوب الأضعف في حين تقف ألمانيا -بطلة الشمال الغني- ثابتةً.
في الوقت الذي عانت فيه منطقة اليورو (أي الاتحاد النقدي) المكونة من 19 عضوًا منذ فترة طويلة من أجل كيفية تضييق الاختلافات بين الأعضاء الأغنياء والفقراء، كشف فيروس كورونا عن أوجه عدم المساواة هذه كما لم يسبق لها مثيل؛ إذ تضررت الدول الأكثر مديونية مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا أكثر بكثير من الدول الشمالية.
إن المديونية في ارتفاع داخل الاتحاد الأوروبي والقطاع البنكي والمالي في خطر شديد بسبب السياسات المالية السيئة التي اتبعتها البنوك المركزية الأوروبية منذ الأزمة العالمية لعام 2008 م، في السنوات اللاحقة قد نرى تفكك الاتحاد النقدي الأوروبي وانهيار النظام المالي الأوروبي.
حاشية:
* الشكوكية الأوروبية Euroscepticism: مصطلح يصف رفض الإتحاد الأوروبي والخروج من عضويته، ويرى أن تشكيلَ اتحادات سياسية بين الدول الأوروبية مثل الاتحاد الأوروبي مشروعٌ فاشل، وعلى الدول أن تخرج من هذا النوع من الاتحادات.
** 7 Reasons Why European Banks Are in Trouble – Philipp Bagus
المصادر: economist – cnbc – politico – csis – politico – economist – bloomberg
- إعداد: محمد مطيع.
- تدقيق لغوي: نور عبدو.
مجهود محترم. شكرا على المقال
شكرا على المقال