يمثل كتاب { اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير } مدخلًا لفهم الكلام الرمزي؛ إذ ينتقل بنا الكاتب بين طبيعة الكلام الرمزي ووروده في الأساطير والطقوس والحكايات، مرورًا بالحديث عن طبيعة الحلم، فتاريخ تفسير الأحلام وفن التفسير، كما يتطرق إلى دراسة النظرية الفرويدية لكن من زاوية الأحلام فقط.
يبتدئ فروم كتابه بمقدمة يذكر فيها أن الناس يرون أن كون المرء في حيرة من أمره يُعتبر مدلولًا مزعجًا على الدونية الذهنية، وهكذا نأخذ كلما تقدمت بنا السن نفتقد شيئًا فشيئًا إلى ملكة الدهشة؛ ربما كان هذا الموقف أحد الأسباب التي تؤدي إلى جعل الأحلام مدعاة لقسط ضئيل جدًا من الدهشة.
تتصف معظم الأحلام بأوصاف مشتركة؛ فهي لا تخضع لقوانين المنطق التي تحكم فكرنا في أثناء اليقظة وبذلك تتفتح حياة النوم على ذلك المستودع الهائل الذي يحتوي على خبراتنا الماضية وعلى ذاكرتنا والذي لا علم لنا بوجوده في حياة اليقظة. فالحلم اختبار راهن وواقعي وهو على درجة من الواقعية بحيث أنه يستثير لدينا سؤالًا مزدوجًا: ما الواقع؟ وكيف يتسنى للمرء أن يدرك أن ما يراه في الحلم لا يتصف بالواقعية وأن الخبرة المُعاشة في أثناء اليقظة هي الواقعية؟
نجدُ في الأسطورة أحداثًا دراماتيكية لا يمكن أن تحصل في عالم يخضع لقوانين الزمان والمكان كانت قد ابتدعتها الشعوب القديمة، ومع ذلك تضل الأساطير والأحلام مشتركة بصفة هي أنها كلها مكتوبة باللغة الرمزية؛ فقط كان البشر الذين عاشوا فيما مضى يعتبرونها من أعمق وأغنى الأشكال التعبيرية التي يتفتق عنها الذهن، ومن يقصر عن إدراكها وفهمها يُعَد في عداد الجهلة.
“الأحلام والأساطير في الواقع رسائلٌ هامة ترسلها ذواتُنا إلى ذواتِنا”.
ويبدأ كتابه فعليًا في الحديث عن طبيعة الرمز في الفصل الثاني؛ معرفًا الكلام الرمزي بأنَّه اللغة الأجنبية الوحيدة التي ينبغي لكل منا تعلُّمُها؛ ففهمها يضعنا على صلة بأعمق الركائز التي تقوم عليها شخصيتنا، ثم إنه كلامٌ يكون الخارجي من خلاله رمزًا للعالم الداخلي ورمزًا للنفس والذهن. ويطرحُ سؤالًا هو: ما الصلة بين الرمز والمرموز إليه؟
وللإجابة يُميز بين ثلاثة أنواع من الرموز: الرمز الاصطلاحي والرمز العرضي والرمز الجامع؛ فأما الرمز الاصطلاحي هو الرمز المعروف لدينا على أفضل نحو لأننا نستعمله في كلامنا اليومي. فإذا نحن أبصرنا كلمة “طاولة ” أو سمعنا من يتلفظ بها، فإننا نعلم أن حروفها تمثل شيئًا آخر غير ذواتنا هو الطاولة الماثلة أمامنا؛ إذ إننا نكون من صغرنا قد أقمنا صلة بين الكلمة والشيء بحكم السمع ولم نعد بحاجة إلى التفكير لإيجاد الكلمة المناسبة. ثم إن الكلمات ليست الرموز الاصطلاحية الوحيدة إذ إن الصور قد تكون رموزًا اصطلاحية مثل الراية وشعار الأمة.
وأما الرمز العرضي يُعاكس الاصطلاحي ويقتصر من حيث طبيعته على كونه رمزًا شخصيًا وحسب؛ فلنفترض أن أحدنا كان قد عاش في مدينة معينة تجربة بائسة، فإذا ذكر اسم هذه المدينة على مسامعه سرعان ما يقرن بين اسم المدينة وبين تلك الصيغة من البؤس. وإذا تساءل عما جعله يفكر بتلك المدينة في أثناء نومه، ربما يكتشف أنه كان بحالة نفسية مماثلة للحالة التي ترمز إليها عندما أوى إلى الفراش؛ إذ تمثل لوحة الحلم تلك الحالة وما المدينة إلا رمز للصيغة الانفعالية التي كان قد عاشها فيها ذات يوم. بينما يتصف الرمز الجامع بوجود صلة جوانية بين الرمز وما يمثله؛ فمثلًا: كانت كلمة “طاولة” ستصبح خالية من المعنى لو أننا لم نرَ طاولة في حياتنا، غير أننا نجد كثيرًا من الرموز الجامعة المتجذرة في تجربة كل كائن بشري مثل رمز النار ورمز الماء وقد سمي جامعًا لأن البشر جميعًا مروا بتلك التجربة المُعاشة.
تشير بعض الاختبارات الحديثة إلى أن بعض الأفراد الذين لا يعلمون شيئًا عن نظرية تفسير الأحلام بوسعهم أن يفسروا رمزية أحلامهم دون صعوبة تذكر وذلك تحت تأثير التنويم المغناطيسي، فإذا خرجوا من تأثير التنويم وطلب منهم أن يفسروها عادوا حائرين في أمرها.
ثم ينتقل في الفصل الثالث للحديث عن طبيعة الحلم الغنية بالدلالات لأننا لا نحلم مطلقًا بأمور تافهة، ويؤكد أن تفسيرَ الأحلام الطريقُ الملكية التي تقودنا إلى فهم اللاوعي، ومن ثم إلى فهم أعتى القوى التي تكمن وراء السلوك البشري سواء كان سلوكًا مرضيًا أو سلوكًا سويًا. ويعرف اللاوعي بأنه الخبرة الذهنية التي هي خبرتنا عندما نعيش تلك الصيغة من الوجود التي ينقطع خلالها كل اتصال لنا مع العالم الخارجي.
إذا كان تأثير العالم الخارجي تأثيرًا حسنًا بالأساس فإن غياب هذا التأثير في خلال النوم ينحو نحو انخفاض قيمة نشاطنا الحلمي بحيث يصبح هذا النشاط أدنى من نشاطنا الذهني في أثناء اليقظة؛ فللنوم وظيفة متعددة الأبعاد به يتجه غياب صلتنا بالحضارة إلى استخراج أفضل ما في دواخلنا وأسوئِها في آن معًا. وبالتالي فنحن قد نكون في أثناء الحلم أقل ذكاءً وحكمة وحياءً مما نحن عليه في اليقظة لكننا قد نكون أيضًا أفضل حالًا وأشد حكمةً. ولا يقتصر الحلم على إلقاء الضوء على العلاقات القائمة بين الأنا والآخرين، ولا على إطلاق الأحكام الثاقبة والتكهنات؛ بل إنه يقوم أيضًا بعمليات ذهنية أرقى من أفعال الذهن المستيقظ وهذا أمر لا يثير الدهشة على الإطلاق إذ إن الفكر الثاقب يقتضي تركيزًا ذهنيًا قد لا نكون قادرين عليه في كثير من الأحيان أثناء يقظتنا، في حين أن النوم يعزز لنا هذا التركيز.
وينتقل في الفصل التالي لدراسة فِكر عالمي النفس سيغموند فرويد وكارل يونغ من زاوية الأحلام، فيعتبر فرويد أن كل القوى الجنسية التي توصف بالشذوذ عندما يكون الأمر متعلقًا بالأشخاص البالغين تشكل جزءًا من النمو الجنسي السوي لدى الطفل؛ فالطفل لا يحب إلا نفسه كما يغار عليها غيرة شديدة ويتعلق بمن هو مخالف لجنسه من أبويه وينشأ الوعي لديه انطلاقًا من عقدة “أوديب” هذه، كما شدد على الطابع السيئ والشرير لدى الطفل؛ وذلك لينفي الفكرة التي أشاعها العصر الفيكتوري والذي توهم من خلالها أن هناك “براءة” طفلية لا شأن لها بالرغبات الجنسية. ثم إن القوى اللا عقلانية التي تظهر في أحلام الإنسان البالغ ما هي إلا تعبيرات عن الطفل الذي يحيا في داخله ويتكلم من خلال أحلامه. (فكرة العطش في أثناء النوم وجرس المنبه)
وفيما يخص حلم الارتباك من جراء العريّ؛ يتجاهل فرويد أن العري قد يعني شيئًا آخر غير الاستعراض الجنسي فقد يكون العري رمزًا لسلامة الطويَة؛ فإذا رأى المرء نفسه عاريًا في الحلم، قد يكون تعبيرًا عن رغبته في إبقاء نفسه على حقيقتها، أما الارتباك الذي ينتابه خلال الحلم فقد يكون تعبيرًا عن خشيته -إذا هو تجرأ أن يكون ذاته- من التعرض لنقمة الآخرين وانتقاداتهم.
بعد ما استقل يونغ عن فرويد أسقط كل أفكار النظرية الفرويدية من نظريته إذ كان فرويد يميل إلى الاعتماد بشكل رئيس على التداعي الحر وإلى فهم الحلم بوصفه تعبيرًا عن رغبات طفلية لاعقلانية ولا أخلاقية، أما يونغ فقد سعى إلى تفسير الحلم بوصفه تعبيرًا عن حكمة اللاوعي.
يسافر بنا بعد ذلك في تاريخ تفسير الأحلام الذي يتجذر في أولى المحاولات المبذولة من أجل فهم معنى الحلم لا بوصفه ظاهرة نفسانية بل بوصفه خبرة فعلية من خبرات النفس إبان مفارقتها للجسد؛ حتى أن الأقدمين كانوا يعتقدون أن الأحلامَ رؤى وتكهناتٌ صادقة لها وظيفة معينة مفادها تشخيص المرض من خلال الرموز التي تتضمنها، وذلك بدراسة العديد من الأحلام التي تستحوذ على مريض من المرضى قبل أن تتضح أعراض المرض. إذًا، فإن التفسير غير النفساني للأحلام هو بمثابة مراسيل تُرسَل إلى الإنسان من قوى خارجة عنه.
أما التفسير النفساني للأحلام فيعبر عن مضمون ذهن الحالم بالذات؛ فتتعمّق النظرية الأرسطية في الحلم في التشديد على طبيعته اللاعقلانية، فيرى أرسطو أننا نتمتع، في النوم، بقسط أرفع من حدة الذهن وبمزيد من رهافة الحس التي تمكننا من معاينة أبسط الظاهرات الجسمانية. بينما في نظر هوبس: في حين يولد الغضب لدينا -في اليقظة- إحساسًا بسخونة بعض أجزاء الجسد فإذا كنا نيامًا كان الإحساس بسخونة هذه الأجزاء نفسها سببًا للغضب وولد في دماغنا تخيلًا لصورة عدو من الأعداء؛ فالأحلام على وجه العموم هي صورة عكسية للتخيلات التي تأتينا في حالة اليقظة؛ أي عندما نكون في حالة اليقظة تبدأ الحركة من طرف معين أما عندما نحلم تبدأ من الطرف الآخر.
وفي الفصل السادس يشير إلى أن لغة تفسير الأحلام فن من الفنون ويتطلب شيئًا من المهارة والمعرفة، ومن أهم الأسئلة التي تتعلق بتقنية تفسير الأحلام هي أن نعرف ما إذا كان الحلم يعبر عن رغبة لا عقلانية وعن تلبية لهذه الرغبة أم أنه يعبر عن خشية أو ضيق دفين، أم أنه تعبير عن نظرة ثاقبة إلى قوانا الداخلية أو الخارجية. وأيضًا هناك أسئلة أخرى: ما هي صلة الحلم بالأحداث القريبة وخاصة بالاختبارات التي عاشها الحالم بشخصية الحالم وبمخاوفه وبرغباته المتجذرة في طبعه؟ وقد تنطوي الرموز الواحدة على دلالات مختلفة يتوقف تفسيرها الصحيح على الحالة الذهنية التي كانت تتحكم بالحالم قبل أن يخلد إلى النوم والتي تظل بالتالي تمارس تأثيرها خلال نومه.
إننا كثيرًا ما نتخذ موضوعًا لرغباتنا من بين كل تلك الأمور المتجذرة في أعماق ضعفنا حتى يتسنى لنا التعويض عن هذا الضعف؛ فنحلم بأننا من المشاهير وأن الجميع يحبوننا لكننا نجد أحياننًا أن الرغبات التي تعبر عنها أحلامنا إن هي إلا توقعات لأشرف ما لدينا من أهداف وغايات. فنرى أنفسنا نرقص ونطير وحتى ولو كنا خلال اليقظة عاجزين عن أن نعيش بهجة الحلم بالفعل فإن الخبرة المُعاشة في أثناء النوم تبين لنا على الأقل أننا قادرون على اشتهاء هذه البهجة وأننا نرغب بتحقيقها من خلال صور الحلم.
الكابوسُ حلمٌ مزعجٌ لا يشكل في نظر فرويد استثناء عن القاعدة العامة التي تعتبر أن مضمون الحلم المستتر هو تحقيق لرغبة لاعقلانية؛ فنحن نعلم أن الانتحار قد يكون نتيجة لحوافز قوية للغاية تتسلط على المرء وتدفعه إلى الانتقام والهلاك اللذين يكونان موجهين ضد الذات أكثر مما هما موجهان ضد الآخر، غير أن الشخص الذي يسعى إلى القضاء على ذاته بذاته أو إلى إلحاق أي نوع آخر من الأذى بنفسه يظل قادرًا، من خلال الجزء الآخر من شخصيته، أن يشعر برعب شديد وحقيقي؛ الأمر الذي لا يبدل شيئًا من كون هذا الرعب إنما هو نتيجة من نتائج رغباته التدميرية الخاصة؛ لكنّ الرغبة قد تؤدي إلى الضيق والقلق لا عندما تنشأ عن ميول تدميرية وحسب بل أننا نستطيع أن نرغب شيئًا رغم جهلنا بأن تحقيق هذه الرغبة سيؤدي إلى نقمة الآخرين علينا وإلحاق العقاب الصارم بنا من قبل المجتمع، وطبيعي أن يكون تحقيق مثل هذه الرغبة مدعاة للضيق والقلق.
بعد أن أوضحَ ماهية الرمز والكلام الرمزي يذهب في فصله الأخير إلى تفسير الكلام الرمزي في الأساطير والحكايات والطقوس والروايات؛ تروي لنا الأسطورة، كما الحلم، خبرًا في الزمان والمكان فهي ضرب من الحكاية التي تعبر بكلام رمزي عن أفكار دينية أو فلسفية، وعن خبرات معاشة من قبل النفس تكمن فيها دلالة الأسطورة بمعناها الصحيح. ثُم إن الأسطوريات مساعدة غير مباشرة: إذ إن فرويد يرى في الأسطورة، كما في الحلم، مجرد تعبير عن النوازع اللا عقلانية واللا مجتمعية التي تسكن البشر، وذلك بصرف النظر عما في الأسطورة من حكمة مختزنة من القرون الماضية وناطقة بلغة خاصة هي اللغة الرمزية.
أسطورة أوديب، مأساة سوفوكل
“أوديب الملك؛ تروي هذه المأساة كيف أن أحد النبوءات قد كشفت للايوس ملك طيبة، ولزوجته جوكاست، أنهما سيلدان غلامًا وأن هذا الغلام سيقتل أباه وسيتزوج أمه، وعندما ولد هذا الغلام، وهو أوديب، قررت جوكاست أن تعاند هذا القدر الذي تحدثت عنه النبوءة بأن تقتل وليدها. فسلمته لأحد الرعاة وأمرته أن يقيد رجليه ويرميه في الغابة حتى يموت؛ لكن الراعي أشفق على الطفل الصغير وعهد به إلى رجل يعمل في خدمة ملك كورنثه. فأخذه الرجل إلى مولاه فتبناه، فشب في مدينة كورنثة وهو لا يعلم أنه لم يكن ابن ملك كورنثه ثم إن نبوءة دلفيس أسرّت إليه أن قدره قد شاء له أن يقتل أباه ويتزوج أمه. فقرر أن يفر من قدره. وفي طريق عودته من دلفيس دخل في مشادة عنيفة مع رجل عجوز كان يقود عربة، فقتل الرجل وخادمه، دون أن يدري أنه إنما قتل أباه. ثم إن ترحاله قاده إلى طيبة. وكان أبو الهول قد دأب على افتراس أهل المدينة حتى يتوصل أحدهم إلى إيجاد الجواب الصحيح على تلك الأحجية التي كان يطرحها: (ما الذي يمشي عند الصباح على أربع وعند الظهر على اثنتين وفي المساء على ثلاث)؟ وكان كريون الذي خلف لايوس على الحكم قد أعلن أن من يحل الأحجية ويحرر المدينة من طغيان أبي الهول، يصبح ملكًا ويتزوج أرملة الملك الراحل، وهكذا وجد أوديب الجواب وهو: الإنسان، وهكذا أنقذت طيبة من تلك الكارثة وأصبح أوديب ملكًا وتزوج جوكاست أمه. ثم إن أوديب حكم المدينة لمدة من الزمن إلى أن انتشر فيها وباء الطاعون وقضى على عدد كبير من أبناء المدينة. عندئذ قالت المتنبئة تيريزيا إن الطاعون المذكور كان قد لحق بالمدينة جزاءً للجريمة المزدوجة التي قان بها أوديب إذ قتل أباه ونكح أمه. وحاول أوديب عبثًا عدم مواجهة الحقيقة الرهيبة ولكنه ما لبث أن اضطر إلى التسليم بها ففقأ عينيه بينما عمدت جوكاست إلى الانتحار.”
إن هذه الأسطورة لا تفهم بوصفها رمزًا لحب رهاقي بين أم وابنها بل بوصفها رمزًا لتمرد الابن على سلطة الأب في العائلة الأبية (البطريركية) وأن زواج أوديب وجوكاست لا يعدو كونه عنصرًا ثانويًا فيها أي لا يعدو كونه واحدًا من رموز انتصار الابن الذي يحل محل أبيه ويصبح بالتالي متمتعًا بكل الامتيازات التي كانت له.
“أوديب في كولونة”؛ نرى أوديب على مقربة من أثينا في غابات الأومينيد، وذلك قبل وفاه. كان أوديب بعد أن فقأ عينيه قد قام في طيبة التي كان يحكمها عمه كريون والذي ما لبث أن نفاه بعد مدة قصيرة فذهب أوديب إلى المنفى برفقة ابنتيه أنطيغون وإيسمان. أما ابناه إيتيوكل وبولينيس فقد رفضا مساعدة والدهما الضرير. وبعد ذهابه من طيبة تنافس الأخوان على العرش، فتغلب إيتيوكل على أخيه لكن بولينيس أبى الخضوع لأخيه، وسعى إلى احتلال المدينة بمساعدة خارجية ونجح في انتزاع الملك منه. كما نجده يتقرب من أبيه لكن حقد أوديب على ابنه كان شديدًا فرفض مسامحته”
أما “أنطيغون فنجد فيها كريون الذي يمثل سلطة الدولة والعائلة على عداء مع ابنه هامون الذي يحاول قتل أبيه، ثم لا يلبث أن يقتل نفسه بعد فشل المحاولة”.
وبذلك يمكن القول إن الحبكة الأساسية لأوديب حول الصراع بين الأب والابن وهذا الصراع يضرب بجذوره بعيدًا حتى يصل إلى تلك المعركة التي نشأت في القدم بين النظامين المجتمعيين، نظام سلطة الأب ونظام سلطة الأم. إن أوديب وأنطيغون وهامون يمثلون النظام الأمومي، وهم يتصدون جميعًا لنسق مجتمعي وديني قائم على سلطة الأب وامتيازاته ومتجسد بشخصي لايوس وكريون.
يفترض باشوفن أن الرجال تغلبوا على النساء في فترة متأخرة جدًا من التاريخ، وهكذا أخذ يتسم النظام الأبوي بالزواج الأحادي (بالنسبة للنساء على الأقل) بسيطرة الأب ضمن العائلة، فحلت الآلهة المذكرة بدلًا من الآلهة المؤنثة…
إن أهم العناصر التي يتكون منها المضمون الفعلي للحلم أو للأسطورة كثيرًا ما يبدو لنا بمثابة العنصر الأدنى أهمية من بين عناصر المضمون الظاهر في حين أن الجزء الأساسي من المضمون الظاهر قد لا يكون إلا جزءًا من المضمون الفعلي فإذا طبق هذا المبدأ على أسطورة أبي الهول يتبين لنا أن العنصر المهم في اللغز هو الجواب الذي يحل اللغز؛ أي الإنسان؛ فهذا اللغز الذي لا يتطلب حله إلا قسطًا من المهارة، إنما يشكل حجابًا يخفي وراءه معنى السؤال المضمر وهو “أهمية الإنسان”.
أسطورة الخلق
تروي أسطورة الخلق البابلية أحداث الثورة التي قام بها الآلهة الذكور ضد تيامات، وهي الأم العظيمة التي تدبر شؤون الكون، إذ اختاروا مردوك قائدًا لهم، وبعد الحرب قتلت تيامات، وانبثقت السماء والأرض عن جسدها وصار مردوك بمثابة الإله الأعظم، غير أن مردوك قبل اختياره قائدًا كان قد خضع لامتحان معين هو: “عندئذ وضعوا بينهم رداءً وقالوا لكبيرهم مردوك: يا ربنا إذا كان قدرك أعظم من الآلهة الآخرين بالفعل فتولِّ قيادتنا حتى (تميت وتحيي) فيتحقق قدرك عندئذ. فليصدر فمك أمرًا باضمحلال هذا الثوب فيضمحل ثم فلتأمر ثانية فيعود هذا الثوب كما كان”. فعل ذلك وهكذا تأكد الآلهة آباؤه من قدرة كلماته. تشير هذه الأسطورة بوضوح شديد إلى النزاع القائم بين مبدأ الأبية ومبدأ الأمية في التنظيم المجتمعي والديني؛ فحتى يتسنى للرجل أن يهزم الأم لا بد له من البرهان على أنه ليس أدنى منها قيمة، وعلى أنه يتمتع هو الآخر بموهبة التوليد، فقد كان عليه أن يخلق بفمه، بكلماته، بأفكاره، هذا هو المغزى العميق الذي ينطوي عليه الامتحان المذكور.
ثم الأسطورة التوراتية حين تنتهي الأسطورة البابلية، فقد غدا امتحان مردوك الموضوع الأساسي لحكاية الخلق التوراتية، فالله خلق العالم بكلمة منه. لم تعد المرأة ولا قدرتها الخلّاقة ضروريتين بعد الآن إذ ولدت حواء من ضلع آدم، غير أن إلغاء الغلبة الأمية من الذاكرة لم يصبح إلغاءً تامًا؛ فنحن نعود فنقع مع صورة حواء على تفوق المرأة على الرجل، إذ إنها هي التي تبادر إلى أكل الثمرة المحرمة، دون أن تستشير آدم مجرد استشارة، بل إنها تعطيه إياها ليأكل منها ثم لا يلبث آدم أن يكتشف سوء عمله، فيبدو بمثابة الأحمق الذي لا يقوى على دفع التهمة عن نفسه.
القلنسوة الصغيرة الحمراء (ليلى والذئب)
البنت التي تحكي الحكاية مغامراتها كانت قد بلغت وغدت امرأة وصار عليها الآن أن تواجه المشكلات الجنسية وتوصيها أمها بألا تحيد عن الطريق حتى لا تقع وتكسر مرطبان الزبدة، وفي ذلك إشارة واضحة إلى تنبيهها لمخاطر العلاقة الجنسية. استيقظت شهية الذئب الجنسية عندما رأى الفتاة، فحاول إغواءها بأن دعاها إلى التأمل فيما حولها وإلى الاستمتاع لتغريد العصافير ولما أحست بشيء من تأنيب الضمير أخذت تبرر لنفسها ما تقوم به بصورة عقلانية مميزة: إذ لماذا ينبغي أن يؤنبها ضميرها ما دامت مقتنعة بأن جدتها ستكون مسرورة بهذه الزهور التي إنما تقطفها لتقدمها إليها؟ لكن هذا الانحراف عن طريق الفضيلة ما لبث أن استتبع عقابًا صارمًا. إذ تنكر الذئب بصورة الجدة وافترس القلنسوة الصغيرة الحمراء على براءتها، ولما هدأت سورة جوعه استلقى وأخلد للنوم.
يوصف الذكر في هذه الحكاية باعتباره حيوانًا كاسرًا ماكرًا، ويُصوَّر الفعل الجنسي باعتباره عملًا افتراسيًا يعمد الذكر على افتراس الأنثى؛ لكن هذه النظرة لا تتفق مع وجه نظر المرأة التي تحب الرجل وتجد متعة في العلاقة الجنسية، إلا أن القلنسوة الصغيرة الحمراء عمدت إلى ملء جوف الحيوان بالحجارة -رمز العقم- فسقط الذئب ومات، إذ عوقب الذئب على فعلته بموجب قانون الثأر البدائي. إن هذه الحكاية التي يجد أشخاصها الثلاثة الرئيسون ثلاثة أجيال بموجب سلسلة النسب النسائية – فالصياد في النهاية صورة اصطلاحية عن الأب ولا وزن له فعليًا – إنما تسلط الضوء على مسألة النزاع القائم بين الجنسين: إنها حكاية المرأة التي تكره الرجل والتي تجد تحقيق ذاتها في انتصارها، علمًا بأن هذا الانتصار يجعل الرجل يخرج من المعركة منتصرًا.
طقس السبت
إن قواعد الالتزام بالسبت تحتل مكانة بارزة في العهد القديم (التوراة) والواقع أنها من بين الوصايا العشر الوصية الوحيدة التي تنصَ على التقيد بطقس معين: “تذكر أن يوم السبت ينبغي أن يكون يومًا مقدسًا. فعليك أن تعمل ستة أيام وأن تنجز كل أعمالك، أما اليوم السابع فهو السبت المكرس للرب إلهك. في هذا اليوم ليس لك أن تقوم بأي عمل، لا أنت ولا أبنك ولا خدمك ولا خادماتك ولا ماشيتك ولا الغريب الذي استقبلته في بيتك. إذ أن الرب إلهك خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها وعليها ثم استراح في اليوم السابع: فالرب بارك يوم السبت إذًا وقدسه”.
إن السبت يرمز إلى حالة من الانسجام التام بين الإنسان والطبيعة فضلًا عن الانسجام التام بين الإنسان والإنسان، وعندما يمتنع الإنسان عن العمل يتحرر من قيود الطبيعة ومن قيود الزمن، وذلك خلال يوم في الأسبوع على الأقل.
الكاتب: إيريك فروم؛ عالم نفس وفيلسوف ألماني من مدينة فرانكفورت وقد هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية في منتصف حياته. “2 نيسان (أبريل) 1900 م – 18 نيسان (أبريل) 1980”
- نقل الكتاب عن اللغة الفرنسية: حسن القبيسي.
- عدد صفحات الكتاب: 244
- الناشر: المركز الثقافي العربي.