لا نبالغ في شيء إذا قلنا إن سؤال “الحرية” يُعد -منذ سحيق الزمان- من الأسئلة الشائكة جدًا التي لم تُحسَم الإجابة عنها بعد، على الرغم من العدد الهائل من الدراسات الفلسفية السياسية المنجزة في هذا الجانب، إذ إن الانقسام ظل سيد الموقف؛ بين مَن ينظر إلى الحرية بصفتها غاية كونية غير قابلة للتطبيق، وبين من ينظر إليها باعتبارها الغاية الأساسية لقيام الدولة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا.
ولا غروَ في أن معظم الفلاسفة الذين تناولوا إشكالية الحرية خلصوا إلى إثبات مفارقتها، ما دام التعسف في ممارستها قد يؤدي إلى إلغائها؛ فضلًا عن كون هذا المفهوم يحمل من بين ما يحمل في طياته دلالات عدة مختلفة بحسب السياقات التاريخية الفكرية.
إذًا؛ كيف أسس سبينوزا لمفهوم الحرية؟
أسس سبينوزا مَتنَه الفلسفي وخصوصًا السياسي ارتكازًا على عدة مصادر، إذ كان قارئًا نَهمًا لكتابات فلاسفة المرحلة الوسيطة، ثم اكتمل فيما بعد أفقه الفلسفي بعد أن شرع في قراءة ديكارت، مما جعله يتبنى الأفق الفكري للديكارتية، فأنتج لنا أهم مؤلفاته؛ تحفة “الإتيقا” وتحفة “رسالة في اللاهوت والسياسة”.
ويتغيا سبينوزا في هذا الأخير، تحديد السلطة السياسية وربطها بالحرية، إذ يعتبر أن هذه الأخيرة هي الأساس والغاية الحقيقية لقيام الدولة شريطة سماح الدولة بحق التفكير وإصدار الأحكام لمواطنيها، خصوصًا الأحكام التي لها أثر إيجابي على تقدم العلوم والفنون والمعارف. في حين أن منع حرية التفكير والتعبير عن الآراء، يؤدي بالمقابل إلى إشاعة أجواء التملق والخداع والنفاق.
يظهر هذا الطرح واضحًا داخل متن سبينوزا؛ إذ يقول في كتابه الموسوم “برسالة في اللاهوت والسياسة”:
“إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة أو إرهاب الناس أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين؛ بل هي تحرير الفرد من الخوف ليعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصودُ منها إتاحةُ الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام”. [1]
بَيد أن الحرية المقصودة عند سبينوزا هنا ليست الحرية المطلقة اللامسة لسلامة السلطة العليا، بل إن الحرية التي يدعو إليها سبينوزا هي حرية مقيدة بشرط أساسي هو “عدم المس بسلامة الدولة أو حق السلطة العليا”، سواء بالأقوال أو بالأفعال.
وفي هذا المنحى يقول سبنيوزا:
“نحن لا ننكر أن سيادة الدولة يمكن أن يطعن فيها بالأقوال كما يطعن فيها بالأفعال، وبالتالي فإذا كان من المستحيل سلب الرعايا حريتهم كلية، فإنه من الخطورة التسليم لهم بها كلية“. [2]
مقتضى ما سلف؛ إن تحديد مفهوم “الحرية” يتطلب دراسة عميقة للمفهوم كرونولوجيًا أولًا، ثم تمحيص فحواها التطبيقي ثانيًا؛ وذلك كي لا نتورط في مشكلات سياسية وفلسفية لا حصر لها.
ولم يعد خافيًا أن إقرارات سبنيوزا في هذا الجانب عالجت هذا المفهوم الشائك من عدة جوانب، وأماطت اللثام عن عدة مشكلات، وحاكت لبوس الحرية في علاقتها بالسلطة؛ إذ أقر -كما ذكرنا آنفًا- على أهمية تحرير الأفراد وإعطائهم حرية التفكير وإطلاق الأحكام، شريطة -طبعًا حسب سبنيوزا- الامتثال للسلطة العليا، وتجنب مس سلامتها.
إذًا؛ كيف نظر القدماء إلى مفهوم الحرية؟ وإلى أي حد يمكن دراسة هذا المفهوم كرونولوجيًا؟ وكيف يمكن تحديده من داخل الفلسفة السياسية؟ كل هذا وذاك سنتطرق إليه في مقالنا المقبل بحول الله.
هذا المقال نُشر في إطار فعاليات مسابقة #عن_الحرية.
حاشية:
- [1]: باروخ اسبينوزا – رسالة في اللاهوت والسياسة”، ترجمة حسن حنفي، صفحة 446.
- [2]: نفس المرجع، صفحة 445.
– بقلم: حمزة كدة.
– تدقيق لغوي: نور عبدو.
مقال جد موفق ،شكرا لك حمزة و للقائمين على المنصة