من كان يقول إن تلك الرياح التي اجتاحت البشرية لمغالبة القيود وبلوغ التحرر، ستفشل في إزالة العقدة الغامضة والعالقة بمسألة “الحرية“؛ إذ ما يفنى متن أي مفكر عبر التاريخ إلا ونظر للبوسها. بيد أن العقدة الكامنة بهذه المعضلة حالت دون توضيحها؛ لأن مفهوم “الحرية” هو مفهوم زئبقي يجدد ذاته بذاته ويتأقلم داخل ظروف أي عصر من العصور.
وقد ألمع لنا الزمان أن مسألة الحرية هي أكثر المسائل الفلسفية تعقيدًا وغموضًا؛ ذلك لأنها مفهوم نظري هلامي وهيولي -إن صح القول-، إذ إن استنبات وتمييع هذا المفهوم من لدن النظريات والتصورات التي ارتبطت به عبر تاريخ الفكر الفلسفي لا تعفينا من طرح هذا السؤال مجددًا ومن البحث عن الإجابات الملائمة والممكنة لوضعيتنا الأنطولوجية. ولا غَرو في أن سؤال الحرية، يستمد مشروعيته من ذاته ومن دلالته ومن ضمنياته ورهاناته، لا من تاريخيته؛ ذلك لأننا لم نختَر أن نفكر في الحرية وإنما أوضاعنا المزرية؛ وأرقُنا الأنطولوجي هو الذي دفعنا إلى ذلك.
وفي خضم هذه المادة المعرفية الماثلة أمامكم، سنقدم لكم نظرة متدرجة بين السطحية والشمول، لمشرب جون لوك الإنجليزي المنتمي إلى القرن السابع عشر، والذي يعتبره كثير من مؤرخي الأفكار والباحثين في الفكر السياسي رائدَ الليبرالية.
داخل سيلان الأحداث الكبرى التي عصفت في أوروبا؛ ولد الفيلسوف والطبيب والسياسي الإنجليزي جون لوك في عام 1632م؛ فترعرع في كنف مدينته “رنغتون” ليتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أكسفورد [1].
ذاع صيت لوك بعد تأييده لثورة 1688 [2]، إذ كتب مقالات تدور حول الحكومة، وتتضمن نقدًا لفيلمر وتوماس هوبز الذي أسس رؤيته عن الثورة والحق الطبيعي بشكل مخالف لما نأَى إليه جون لوك، من ثَم شيد رؤيته عن السياسة الليبرالية ومفهوم المواطن ودور الملكية الفردية. وقد عُرف بتوقه الشديد إلى تحقيق الحرية، فأسس عمق مَتنه الفلسفي والسياسي على فكرة الحرية باعتبارها حقًا طبيعيًا للفرد. وهذا ما جعله أكثر المفكرين تأثيرًا في عصره، فقد ألهمت أعماله العظيمة أجيالًا من الفلاسفة لمتابعة ما بدأت كفولتير وروسو وغيرهم.
إذًا؛ كيف تاق جون لوك إلى الحرية وكيف بلورها؟
إن مُجمل رؤية لوك عن الحرية، التي تاق إليها بشدة، تقر بأن للفرد الحق الطبيعي في حريته وفي الشخصية المتفردة، والتي يجب أن تكون “أخلاقية”؛ فكانت حرية الإنسان هي شغله الشاغل ومدار مشروعه الفلسفي السياسي وفي ما يلي أهم الأفكار والإقرارات التي جاء بها لوك، عبر ستة عوارض ملخصة لأفكاره:
– اعتبر أن الإنسان كائنًا عاقلًا، والحرية لا تنفصل عن السعادة، على أن هدف وغاية السياسة والفلسفة واحدة، وهي البحث عن السعادة التي تكمن في السلام والانسجام والأمن، من ثم بلوغ الحرية. وقد احتلت الملكية الخاصة عند لوك مكانًا عاليًا ومتميزًا، ذلك لأنه اعتبرها سابقة للمجتمع المدني وهي التي تمنح السعادة، فيجب أن تكون غاياتُ الحكومة ووظائفها للحفاظ على الملكية [3].
ثُم إن أفكار لوك عن الديمقراطية كانت رؤية مثالية نابعة من طبيعة هذا المفكر الذي وضع حرية الإنسان فوق كل الاعتبارات؛ إذ أقر على أن جميع الناس سواسية فلا مراتب ولا درجات ولا فئات بين البشر؛ علاوة على أن جميع الناس أحرارًا، ثم تأكيده على أن السلطة السياسية تقوم على أساس التعاقد القائم على التراضي بين طرفي العقد فلا يستطيع أحد أن ينتزع السلطة ويستولي على الحكم رغمًا عن إرادته [4].
– رأى جون لوك أنه من حق المحكومين مقاومة السلطات عندما تنال من الحقوق الطبيعية خصوصًا الحرية والملكية الفردية [5]؛ ولكنّ المقاومة في نظره ليست بهدف تحقيق الأماني الشعبية بل الدفاع عن النظام. وقد أقر بأن الهدف من الثورة هو حمل الحاكم على التفكير والعودة لاحترام الشرعية، وهذا التفسير يعني أن لوك لم يطالب أو يشجع على الطغيان أو الثورة الشعبية، ولكن هي فقط مجرد دعوة إلى التعقل وإشعار الحاكم بأن هناك تبرمًا ناتجا عن فقد الرعية لحرياتهم وملكياتهم الفردية.
– يعتبر لوك أن الشخصية للفرد سابقةٌ للمجتمع المدني وشرطٌ أساسي لمشروعية السلطة، إذ يقول: “إن الفرد ليس كائنًا اجتماعيًا من الأساس، لكنه يدخل في المجتمع بغية الظفر بحقوقه الطبيعية”. ومن ثم يعتبر الملكية الفردية حقًا لكل فرد لأنها مرتبطة بالحفاظ على الذات، وقد ربط لوك بين الملكية والحرية، باعتبار أن الملكية شرطًا أساسيًا للحرية؛ إذ من دون هذا التلاقي والتلاقح بين هذين الاثنين لم يكن لوك ليؤسس نظريته السياسية بتلك الجذور العميقة. هذا فضلًا عن أن طروحاته ومقالاته وانتقاداته تكررت بها عدة مفاهيم من قبيل الحق الطبيعي والشخصية والملكية والفرد والسلطة والمشروعية وما إلى ذلك.
– يرى جون لوك أن الملكية هي بالأساس ذات طابع فردي، إذ ربط بين هدف إقامة السلطة والملكية، ويقول: “إذا كان هدف إقامة السلطة السياسية حماية ملك الفرد، فإن الحقوق السياسية والمدنية تحددها الملكية بالضرورة”. وقد أقر كذلك بالمساواة بين الأفراد في الحقوق الطبيعية، ويبرر عدم المساواة في مجالات السياسة المرتبطة بالحقوق، إذ إنه “يشير إلى فكرة أن الإنسان ليس وحده في الحالة الطبيعية لأن بقية البشر يعمرون الأرض أيضًا” [6]. ويقول: “الحقوق الطبيعية ومن بينها الحق في العمل والملكية والمراكمة اللا محدودة تقود بالضرورة إلى التفاوت في الحقوق المدنية والسياسية”.
– نقض لوك السلطة المطلقة، التي نظر إليها توماس هوبز لأن لوك اعتبرها قرين الطغيان، فيقول: “هي ممارسةٌ للسلطة التي لا تستند إلى أي حق أبدًا، والتي تستجيد أن تكون حقًا لشخص ما، والطغيان استخدام السلطة من شخص لمصلحته الخاصة، لا من أجل منع الخير لعموم المحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الحاكم إرادته قاعدة السلوك عوضًا عن القانون، وعندما ما تتجه أفعاله نحو إرضاء تطلعاته، أو شفاء غليله عوضًا عن المحافظة على مكتسبات شعبه”.
– صاغ لوك الفردانية بصيغ ضابطة لها، إذ لا يكون الإنسان مكتملًا في إنسانيته، إلا إذا كان حرًا ومستقلًا عن إرادة الآخر، بمعنى أن كمال الإنسان يتحقق بالاستقلال عن الآخر. من ثم يسعى الإنسان الحر إلى تحقيق مصلحته الخاصة، وقد أقر كذلك أن المجتمع هو مجموع علاقات السوق، وحرية الفرد وإنسانيته تحد بالالتزامات والقواعد الضرورية التي تضمن لجميع الحرية والاستقلالية.
زبدة القول؛ إن هذا الرجل الذي تاق توقًا شديدًا لإشكالية الحرية وجعلها شغله الشاغل، أقر بأنها هبة طبيعية للإنسان؛ فهو لا يستمدها من المجموعة ولا يكتسبها من خضوعه لسلطة الدولة، بل هو حر بصورة أصلية طبيعية، أو هو حر “ماهويًا”. بمعنى أن الإنسان -حسبه- حر لأنه عاقل، والحرية هي تصرف تبعًا لإرادته؛ إذ ترتكز على كونه يتحلى بالعقل الذي يكشف له من تلك السنة التي ينبغي أن يخضع لها ويطلعه على مدى حرية إرادته.
- بواسطة: حمزة كدة.
- تدقيق لغوي: نور عبدو.
هذا المقال نُشر في إطار فعاليات مسابقة #عن_الحرية.
• المراجع والحواشي:
[1]: محمد نبيل الشيمي – جون لوك العاشق للحرية – الحوار المتمدن، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.
[2]: الثورة المجيدة، عرفت باسم “ثورة 1688″، إذ عزل على إثرها الملك جيمس الثاني حاكم إنجلترا واسكتلندا وإيرلندا في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1688، ونصبت ابنته ماري الثانية وابن شقيقه الهولندي ويليام الثالث زوج لابنته ماري.
[3]: فهد السفيران – جون لوك: حرية الفرد تحدها الالتزامات والقواعد – الشرف الأوسط، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.[4]: نفسه.
[5]: نفسه.
[6]: محمد مطيع – الحقوق الطبيعية عند جون لوك – مجلة وندرلاست، اطلع عليه بتاريخ، 2020/05/04.