تُعرف كوريا الجنوبية بأنها إحدى النمور الآسيوية الأربعة التي جذبت انتباه العالم بنموها الاقتصادي السريع في الستينيات والسبعينيات؛ النمور الثلاثة الأخرى هي تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة.
شهدت كوريا الجنوبية إحدى أكبر التحولات الاقتصادية في السنوات الستين الماضية؛ لقد بدأت كاقتصادٍ قائمٍ على الزراعة في الستينيات، وفي سنة 2018 أصبحت تُعتبر الاقتصاد الحادي عشر ترتيبًا في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي. كيف حدث أن أصبحت هذه البلد التي كانت تُعرف سابقًا بأنها من أفقر المناطق في العالم إلى إحدى أكبر القوى الاقتصادية؟
تاريخ كوريا الجنوبية الحديث
بعد فوز اليابان في الحرب اليابانية – الصينية الأولى* سقطت كوريا تحت احتلال اليابان منذ ذلك الوقت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما استسلمت اليابان للسوفييت والأميركان، اللذَين احتلا النصفين الشمالي والجنوبي لكوريا على التوالي.
بعد الحرب العالمية الثانية قُسِّمت كوريا إلى معسكرين مختلفَين إيديولوجيًا، كان الشق الشمالي تابعًا للمعسكر الشيوعي، وتبعَ الشق الجنوبي المعسكر الرأسمالي. بدأت الحرب الكورية في سنة 1950 بعد محاولة كوريا الشمالية بمساعدة الصين احتلال كوريا الجنوبية ودعم الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية، اتفق الجانبان على هدنة سنة 1953، كانت نتيجة الحرب مقتل مليونَي شخص.
بالنظر إلى نفوذ الولايات المتحدة على كوريا الجنوبية، جربت الدولة المستقلة حديثًا الديمقراطية، ولكن تبين أن البيئة كانت مضطربةً للغاية بسبب الإضرابات العمالية والاضطرابات السياسية حيث تنافس مختلف أصحاب المصلحة على النفوذ، وكان هناك تهديد واضح للغاية من كوريا الشمالية حيث جُمِع جيش كوريا الشمالية الكبير عند الحدود بالقرب من عاصمة كورية جنوبية سيول.
بعد الحرب كانت كوريا الجنوبية هي الدولة التي تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة، بخلاف كوريا الشمالية التي كانت تمتلك جميع الصناعات والشركات الكبرى، بينما كوريا الجنوبية كانت منطقة تعتمد على الزراعة بشكلٍ جزئي وكانت متخلفةً جدًا؛ لم توجد مقاعد أو طاولات دراسة في المدارس، وكان طعام الأطفال الأساسي يأتي من الحليب المعلب الذي يرسله الاتحاد الأوروبي وأميركا كمساعداتٍ.
الجنرال بارك تشونغ هي: الأب الروحي لكوريا الجنوبية
بدا أن كوريا الجنوبية قد لا تنجو من هذا الصراع مع الدول المجاورة والتخلف الاقتصادي الذي تعاني منه، ففي سنة 1960 انتشرت العديد من الاحتجاجات الساخطة على وضع البلاد، وهنا قام الجنرال بارك بانقلاب عسكري واستولى على السلطة؛ هكذا بدأت قصة أول مرحلة دكتاتورية في كوريا الجنوبية.
قرر جيش كوريا الجنوبية حكم البلاد وتولى الجنرال “بارك تشونغ هي Park Chung-hee” دور الرئيس، فأعطاه القادة العسكريين الأولويةَ للحفاظ على الذات والاستقلال عوضًا عن الحكم الديمقراطي والمساواة. قرروا أن الديمقراطية والمساواة تقل أهميةً بالنظر إلى سياق ذلك الوقت وموقع كوريا الجغرافي في الصراع مع باقي الدول المجارة لها؛ حكم الجنرال بارك البلاد لمدة 20 عامًا تقريبًا بيد حديدية، خلال ذلك الوقت، نمت كوريا الجنوبية بسرعة.
لعب الجنرال بارك دورًا محوريًا في تنمية اقتصاد كوريا الجنوبية من خلال تحويله إلى اقتصاد صناعي موجه نحو التصدير؛ عندما وصل إلى السلطة في عام 1961، كان دخل الفرد في كوريا الجنوبية 72 دولار فقط. كانت كوريا الشمالية قوةً اقتصادية وعسكرية أكبر من جارتها الجنوبية، وهذا بسبب تاريخ كوريا الشمالية مع الصناعات الثقيلة من مثل محطات الطاقة والكيمياويات، والكميات الكبيرة من المساعدات الاقتصادية والتقنية والمالية التي تلقتها من دول الكتلة الشيوعية الأخرى مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية والصين.
كان أحد إصلاحات بارك هو توفير الكهرباء على مدار 24 ساعة، وهو تغيير كبير حيث زُوِّدت المنازل والشركات في السابق بالكهرباء لبضع ساعات فقط يوميًا. مع الخطة الخماسية الثانية التي قام بها في عام 1967، أسس بارك مجمع كورو الصناعي في جنوب غرب سيول، وأُنشِئَت شركة بوهانج للحديد والصلب المملوكة للدولة لتوفير الصلب الرخيص للـ chaebol، وهي مجموعات أعمال كورية (تكتل شركات (Conglomerat، مثل keiretsus اليابانية. والتي أسست أول مصانع السيارات وأحواض بناء السفن في كوريا الجنوبية. وعكس اتجاهاتها السائدة، كافأت حكومة بارك الـchaebok التي حققت أهدافها بموجب خطط الخمس سنوات بقروض بشروط ميسرة للسداد وخفض الضرائب ومنح التراخيص والإعانات بسهولة.
كان من الشائع منذ أواخر الستينيات فصاعدًا أن يتحدث الكوريون الجنوبيون عن طبيعة “الأخطبوط” الذي هو الـChaebol عندما بدؤوا في توسيع “مخالبهم” لتشمل جميع مجالات الاقتصاد. أُسسِت بعض شركات الـchaebol الناجحة مثل Lucky Goldstar (LG) وSamsung في الفترة اليابانية في حين أن شركات أخرى مثل Hyundai تأسست بعد فترة وجيزة من نهاية الحكم الياباني. أصبحت جميع هذه الشركات شركاتٍ عالميةً مشهورةً. أصبحت Hyundai، التي بدأت كشركة نقل تنقل الإمدادات للجيش الأميركي خلال الحرب الكورية، مهيمنةً على صناعة الإنشاءات الكورية الجنوبية في الستينيات، وفي عام 1967 افتتحت أول مصنع سيارات لها، وصنعت سيارات بموجب ترخيص لفورد. في عام 1970، انتهت Hyundai من إنشاء طريق Seoul-Pusan Expressway السريع، الذي أصبح أحد أكثر الطرق السريعة ازدحامًا في كوريا الجنوبية، وفي عام 1975 أنتجت Pony، وهي أول سيارة صممها مهندسون كوريون بالكامل. إلى جانب تصنيع السيارات والبناء، انتقلت Hyundai إلى بناء السفن والإسمنت والكيماويات والإلكترونيات، لتصبح في نهاية المطاف إحدى أكبر الشركات في العالم.
كان من علامات نمو الاقتصاد الكوري الجنوبي أنه في عام 1969 كان هناك 200 ألف جهاز تلفزيون يعمل في كوريا الجنوبية، وبحلول عام 1979 وصل عدد التلفزيونات التي تعمل فيها إلى ستة ملايين جهاز. في عام 1969، امتلكت 6% فقط من الأسر الكورية الجنوبية جهاز تلفزيون؛ بينما امتلكت أربع من كل خمس أسر كورية جنوبية جهاز تلفزيون بحلول عام 1979.
لم تكن الحكومة تعترف بالحد الأدنى للأجور أو الإجازة الأسبوعية. بالإضافة إلى ذلك، كانت النقابات العمالية والإجراءات العمالية الجماعية محظورةً آنذاك.
في أوائل الستينيات، تبنت حكومة كوريا الجنوبية استراتيجية التصنيع لاستبدال الواردات Import substitution industrialization، أرادت الأمة المستقلة حديثًا السيطرة على مصيرها. أرادت إنتاج منتجات مهمة بمفردها بدلًا من الاعتماد على منتجات أخرى، ومن ثم نفذت برامج وسياسات تفضل الإنتاج المحلي للسلع المهمة مثل الصلب والأسمدة.
ومع ذلك، فإن الافتقار إلى الموارد الطبيعية، وبالنظر إلى صِغَر السوق المحلية، فإن استبدال الواردات لم يكن استراتيجيةً قابلةً للاستمرار لكوريا الجنوبية، وسرعان ما كان عليها التحول إلى استراتيجية نمو تقوده الصادرات.
أُطلِقت برامجُ لاستهداف صناعات التصدير، والتي من شأنها أن تكسب عملات أجنبية قيمة من الأسواق الكبيرة في الخارج، ودفع ثمن الواردات الهامة. سيطر الجنرال بارك على الاقتصاد مع عدد قليل من الصناعيين ورجال الأعمال المختارين، والذين كانوا مسؤولين عن chaebols.
كان أداء كوريا الجنوبية جيدًا من حيث النمو الاقتصادي خلال حكم بارك؛ في الأعوام الخمسة عشر بين عامي 1965 و 1980، نما إجمالي الناتج المحلي لكوريا الجنوبية بمعدل 9.5 في المائة سنويًا، والذي كان أحد أعلى المعدلات في العالم.
نمت سنغافورة بنسبة 10.2%، وهونغ كونغ بنسبة 8.5%، والصين بنسبة 6.4%، والهند بنسبة 3.8% فقط.
تمركزت سياسة الزعيم الكوري الجنوبي حول القيام بتغيير مؤسساتي شامل للبلاد من خلال إنشاء مؤسسات وقواعد اللعبة المناسبة لتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والحفاظ على الذات الوطنية التي اعتقد أنها ضرورية في مواجهة التهديد العسكري الخارجي والمشاكل الداخلية خلال تجربة البلاد مع الديمقراطية.
كانت استراتيجية كوريا الجنوبية في ذلك الوقت قمعيةً بالنسبة للحرية السياسية، وتفضل التكتلات الكبيرة على الشركات الصغيرة من خلال توفير رأس المال المدعوم للتكتل الاقتصادي الذي ذُكِر سابقًا.
كان هناك أيضًا خطرٌ كبير من سوء المعاملة؛ عندما تكون السلطة مركزية تسيطر عليها مجموعةٌ صغيرةٌ من الناس، يمكنهم أن يغتنموا الفرصة لخدمة مصالحهم الخاصة بدلًا من مصالح البلد والسكان.
كان هيكل الحكومة المركّز، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة بين المجموعات العسكرية ومجموعات الأعمال الـchaebols، وتقاطع الملكية بين الشركات، قد خلق عدم الشفافية، مما أدى إلى فساد كان من السهل إخفاؤه، حيث كانت حرية الصحافة محدودة، ولم يُتسامَح مع النقاد.
كانت الديون الهائلة للغاية إحدى المشاكل الكبيرة التي نشأت تدريجيًا، من خلال استراتيجية تفضيل الصناعات كثيفة رأس المال، مثل المواد الكيميائية وبناء السفن؛ على عكس اليابان، حيث مُوِّلت التنمية الصناعية إلى حد كبير عن طريق المدخرات المحلية؛ في كوريا الجنوبية، جاء التمويل على شكل قروضٍ من المقرضين الأجانب.
عانى الاقتصاد الكوري الجنوبي من نكسةٍ خطيرة نتيجة لالتقاء عدة عوامل، منها: عوامل الحوكمة، وهيكل ملكية الشركة، والافتقار إلى الشفافية، والديون الكبيرة التي تشمل قروضًا قصيرة الأجل يحتفظ بها المقرضون الأجانب.
جعلت هذه العوامل الاقتصاد الكوري الجنوبي عرضةً للخطر؛ عندما فقد المقرضون والمستثمرون الأجانب الثقة في المنطقة، بدأت هجرة جماعية لرؤوس الأموال خارج كوريا الجنوبية.
كان هناك أيضًا إشكالية رأسمالية المحاسيب آنذاك بسبب الـ chaebols الضخمة التي حمتها الحكومة إلى حدٍّ ما. بعبارةٍ أخرى، يمكنهم الاستفادة من الاحتياطيات الحكومية والدعم ومنع المنافسة في حين أن الشركات الصغيرة والمتوسطة كانت في ورطة كبيرة، وبالضبط أولئك الذين أخذوا قروض بالدولار.
إذاً وُجِد هذا التقسيم للاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى زيادة قوة chaebols، وحتى هذا اليوم إذا نظرت إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في كوريا، فإن معظمها يعتمد على chaebols من أجل العمل في اتجاه واحد أو آخر.
لا تغطي الإيرادات التي تحصل عليها الحكومة نفقاتها، وهناك عجزٌ كبيرٌ في الميزانية، ولمعالجة هذا تحاول الحكومة تغطية نفقاتها عن طريق طباعة النقود، والتي تجدها أسهل من الناحية السياسية من زيادة الضرائب أو تقليص النفقات. مما يؤدي إلى ارتفاع التضخم. وللتضخم تأثيراتٌ غير متماثلة – يمكن أن يؤثر على شرائح مختلفة من السكان بشكل مختلف. قد لن يؤثر هذا على البيروقراطيين وصاحبي العمل المنظم، لكن العمال والمتقاعدون غير المنظمين قد يعانون جدًا جراء هذا.
فمع ارتفاع التضخم، أصبحت صادرات البلاد غير قادرة على المنافسة والعملة تميل إلى الانخفاض. وأصبح البلد غير قادرٍ على دفع ثمن الواردات المهمة، واجتاح الذعر المستثمرين، وهنا دخلت البلاد في فترةٍ من الاضطراب.
تضاءل تسامح الشعب مع الحكم العسكري الاستبدادي مع مرور الوقت؛ طالب العمال والسياسيون الطموحون بالتغيير. اغتيل الجنرال بارك على يد رئيس الأمن في عام 1979، وتلا ذلك العديد من الاضطرابات السياسية، ومنذ ذلك الحين انتقلت كوريا الجنوبية نحو الديمقراطية الليبرالية، وبين عامي 1980 و 1990 نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي يزيد على 9%. ارتفع التصنيع بنسبة 13%، على الرغم من أن هذا كان أقل بكثير من المعدل السابق لأكثر من 18%. ومع ذلك، على مر السنين وُضِعت الجذور للمشاكل هيكلية.
تأثير الأزمة الآسيوية سنة 1997 على اقتصاد كوريا الجنوبية
في الثمانينيات وأوائل التسعينيات في كوريا الجنوبية، كان أحد آثار الاستراتيجية الحكومية المتمثلة في تفضيل الصناعات كثيفة رأس المال مثل المواد الكيميائية وبناء السفن أن هذه الشركات أصبح لديها مستوىً عالٍ من الديون.
في حين نمت كوريا الجنوبية بسرعة تحت حكم الجنرال بارك، فقد دخلت فترة من الاضطراب بعد اغتياله في عام 1979. وفي عام 1997، تعرضت منطقة جنوب شرق آسيا للأزمة المالية الآسيوية، وكان هناك تدفق هائل لرؤوس الأموال. عانى الاقتصاد الكوري الجنوبي من نكسةٍ خَطِرةٍ خلال الأزمة، وذلك نتيجةً للعديد من المشاكل الهيكلية والديون الخارجية العالية التي تراكمت لديها؛ تأثرت البلاد سلبًا عندما ضربت هذه الأزمة المالية المنطقة.
خلال هذه الأزمة كانت كوريا الجنوبية مترددةً في طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي (IMF)؛ أشارت الأسواق إلى افتقارها إلى الثقة عن طريق سحب رأس المال، مما أدى إلى انخفاض قيمة الوون (العملة الكورية الجنوبية).
سوء الاستثمار ودورة الازدهار الوهمي (Boom and bust cycle):
أولًا، من الواضح أن معظم اقتصادات جنوب شرق آسيا، بما في ذلك سنغافورة وتايلاند وماليزيا والفلبين وكوريا الجنوبية، عانت من الإفراط في الاستثمار، أو ما أطلق عليه لودفيج فون ميزيس Ludwig von Mises “سوء الاستثمار”. اتّبع النظام السلطوي برنامج “الادخار القسري” وطالبَ المواطنين والشركات بالإفراط في الاستثمار. عندما أصبحت المدخرات الطوعية غير كافية لبناء البنية التحتية للبلاد وتكوين رأس المال، شجعت الدولة التخطيط الصناعي؛ علاوةً على ذلك، أنشأت سياساتٍ ائتمانيةً رخيصة وشجّعت الاستثمار الأجنبي بأسعار فائدة منخفضة. باختصار، خُلِق طفرةٌ تضخمية في جنوب شرق آسيا.
حذرت المدرسة النمساوية مرارًا وتكرارًا من أن الطفرة التضخمية في استثمار رأس المال لا تؤدي فقط إلى ارتفاع الأسعار، بل تجعل المشروعات غير المستدامة تبدو جذابةً، وفي نهاية المطاف، يجب أن ترتفع أسعار الفائدة ويتأثر الاقتصاد بالركود.
الدولار كمعيار شبه ذهبي:
من أهم أسباب الأزمة الآسيوية كانت في قوة الدولار الأمريكي؛ أصبح الدولار الأمريكي في النصف الثاني من التسعينيات قويًا جدًا، وكان لهذا تأثيرٌ كبيرٌ جدًا حول اقتصاد العديد من الدول في العالم أهمها الدول الآسيوية بسبب أن معظم عملات جنوب شرق آسيا كانت مرتبطة بالدولار، وكانت هذه هي نهايتها.
عندما ارتفع الدولار بنسبة 30% مقابل العملات الرئيسية الأخرى، أصبحت اقتصادات جنوب شرق آسيا التي كانت موجهة للتصدير وترتبط بالدولار، في وضعٍ سيءٍ جدًا؛ أصبحت صادراتها فجأةً أغلى بنسبة 30%، وانخفض الطلب على سلعها؛ انخفضت الصادرات، وهبطت الأرباح، ولم يصبح بالإمكان سداد الديون بأسعار الصرف الحالية. ونتيجةً لذلك، اضطرت الحكومات إلى الانفصال عن الدولار وانهارت عملاتها، وتحولت الطفرة إلى إفلاس.
إلى جانب طباعة النقود، أًصبح يتعين على الحكومة الاقتراض لتغطية النفقات؛ واجهت البنوك المحلية والشركات التي تدين بأموال للمقرضين الأجانب مشكلةً كبيرةً، إذ كانت هذه الديون مُقرضةً بعملاتٍ أجنبية.
على سبيل المثال، افترضت شركة كورية جنوبية كانت تدين بمليون دولار لمُقرِض أمريكي قبل أزمة عام 1997 أنها ستحتاج إلى 900 مليون وون لسداد الديون، لأن الدولار كان يعادل 900 وون. ولكن عندما حدثت الأزمة وانخفضت قيمة الوون إلى 1500 وون مقابل الدولار، فإن نفس الدين البالغ مليون دولار يحتاج إلى 1500 مليون وون لسداده بدلًا من 900 مليون وون.
واجهت الشركات والبنوك الكورية التي تحتفظ بهذه الديون، المقومة بالعملات الأجنبية، وضعًا ماليًا صعبًا للغاية. عاشت هذا النموذج العديدُ من الشركات في عددٍ من البلدان المتأثرة بالأزمات، وتسبب في حالات إفلاس لكثير من الشركات ولخسائر شديدة في الوظائف.
في مثل هذه الحالة، تحاول الحكومة المحلية حل مشكلة ترك رأس المال وهبوط العملة عن طريق بيع الدولارات من احتياطياتها من العملات الأجنبية لرفع قيمة عملتها، لكن الأسواق تدرك أن الأسباب الجذرية لم تُصلَّح، وما لم يتم ذلك، فإن الضغط سيبقى مستمرًا.
يوقَف الانخفاض في العملة بشكلٍ مؤقتٍ فقط، ويستأنف ذلك عندما يبدأ البنك المركزي في البلاد في رؤية الاحتياطيات الأجنبية تنخفض بمعدلٍ لا يمكن تحمله، ويواجه احتمال نفاد الاحتياطيات، ويتعين عليه إيقاف بيع الدولار لدعم عملته. في هذه المرحلة، الحكومة يائسة وتسعى للحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي. والطريقة الأكثر مباشرةً التي يساعد بها صندوق النقد الدولي هي تقديم قروض صرف العملات الأجنبية.
يمكن للبلد الذي يواجه الأزمة استخدام هذه القروض لتحل محل بعض رؤوس الأموال التي تُسحَب من البلاد. ويمكن أن تساعد قروض صندوق النقد الدولي أيضًا في دفع تكاليف المدخلات الهامة واستقرار الوضع المالي مؤقتًا، لكن صندوق النقد الدولي يعلم أنه إذا لم تُحل المشكلات الأساسية، فستستمر الأزمة المالية.
إصلاحات السوق الحرة القادمة
خرجت بعض الدول الآسيوية بأمرٍ إيجابي من الأزمة المالية، فقد أجبرت هذه الأزمة دول جنوب شرق آسيا وحكوماتها على تبني رأسمالية السوق؛ لم تعد هذه الأنظمة الاستبدادية قادرةً على دعم الشركات المفضلة أو لعب دور سياسي مفضل؛ يجب السماح للشركات غير الفعالة أو الفاسدة بالإفلاس. الائتمان السهل ليس هو الحل لنقص رأس المال. في كل هذا، دقت مجلة Business Week ناقوس الخطر وحذرت آسيا من العودة إلى القومية المفرطة أو الأفكار المناهضة للرأسمالية. هذا الأمر مدهشٌ للغاية لأن Business Week تتمتع منذ فترة طويلة بسمعة كونها معادية للسوق الحر، لكنها تغيرت للأفضل. على حد تعبير مقال افتتاحي حديث: “هناك فرصة قوية لأن تكون الأزمة الآسيوية بمثابة تنذير، وحل للحكومات الاستبدادية والممارسات الاقتصادية السيئة عن طريق نشر الديمقراطية والرأسمالية”.
الفرق بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية
عام 1960، كانت كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية متماثلتَين في نسبة الفقر. والآن ، بعد مرور 60 عامًا تقريبًا على ذلك، يبلغ دخل الفرد في كوريا الجنوبية أكثر بـ20 مرة دخل كوريا الشمالية، بنحو 38,000 دولار سنويًا، وهو أعلى من دخل إسبانيا أو إيطاليا. لقد انتقل الكوريون الجنوبيون من دخل الفرد في عام 1970 الذي كان نحو 10% من المتوسط الأمريكي إلى ما يقرب من 70% اليوم.
يمكن للمرء الوقوف على تلةٍ عاليةٍ والنظر إلى أسفل لملاحظة شخص واحد تحت نظامين؛ يأتي الكوريون في الشمال والجنوب من نفس الثقافة والجينات، ويتحدثون نفس اللغة، ويشغلون قطعًا متجاورة من الأرض بها الكثير من التضاريس نفسها والموارد الطبيعية المحدودة.
اختارت كوريا الشمالية طريق الاشتراكية، التي تحتوي دائمًا على بذور تدميرها، أما كوريا الجنوبية فاتجهت نحو الرأسمالية. تظهر الاشتراكية لنا مرةً أخرى أنها تتعارض مع الطبيعة البشرية والحقائق الاقتصادية.
بحلول الستينيات، خلصت قيادة كوريا الجنوبية وشعبها إلى أن البقاء يعتمد على النمو الاقتصادي ونظام سياسي مستقر بشكلٍ متزايد؛ لقد أدركوا أن النمو السريع يتطلب تصدير كميات كبيرة من السلع والخدمات. ارتفعت الصادرات من الصفر تقريبًا إلى أكثر من 50% من إجمالي الناتج المحلي اليوم، ونمت الواردات أيضًا بسرعةٍ تقريبًا. سابقًا، فضَّل النظام الضريبي والتنظيمي في كوريا الجنوبية الشركات التي تصدر وتطور الصناعات الثقيلة، مثل صناعة السفن وصناعة السيارات. والآن قد خُفِّضت الكثير من الإعانات السابقة والحوافز الضريبية والتنظيمية لبعض الشركات على حساب أخرى مما أتاح للبلد نظامًا أكثر توازنًا ومتوافقًا دوليًا.
كان هناك أيضًا تركيزٌ قوي على التعليم، وخاصة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات؛ لدى كوريا الآن أحد أفضل السكان تعليمًا وأمهر قوة عاملة في العالم، كما أنه تحسن بشكلٍ متزايد مؤشر سيادة القانون، واستقرار العملة مما أدى إلى انخفاض التضخم.
مستويات الضرائب والإنفاق الحكومي أقل قليلًا مما عليه في الولايات المتحدة ومعظم الدول المتقدمة الأخرى، لكنها لا تزال أعلى من المستوى الأمثل. أظهر الكوريون مزيدًا من الانضباط في الموازنة مقارنةً بالأوروبيين واليابانيين والأمريكيين (منخفض جدًا)، مما منحهم إمكانية التحكم في الدين العام.
كانت كوريا الجنوبية دولةً فقيرةً للغاية، وكانت بلدان أخرى مثل الغابون أو زيمبابوي أكثر تطورًا منها آنذاك. ومع ذلك، في جيلٍ واحدٍ فقط، انتقل الكوريون الجنوبيون من الجوع إلى أحد أكثر المجتمعات ازدهارًا في العالم.
خلال الـ27 سنة القادمة، كان لدى البلاد ثلاثة دكتاتورات مختلفون، وقد وصلوا جميعهم إلى السلطة بطريقةٍ عنيفة من خلال الإطاحة بالدكتاتور السابق. ومع ذلك، على الرغم من عدم وجود استقرار سياسي في بدايتها كانت هذه هي الفترة التي أُنشِئَ فيها النموذج الاقتصادي الكوري.
لم تضع كوريا الجنوبية أي حواجز أمام التجارة الدولية. منذ تلك اللحظة الأولى، ضمنت الحكومة حكم القانون والضرائب المنخفضة لجميع الأعمال بغض النظر عن مصدرها؛ أعطى الجنرال بارك جميع أنواع الحوافز الضريبية للشركات والأفراد للاستثمار وتوفير المال. بمعنىً آخر، كان على الشركات الكبرى مثل Hyundai أو LOTTE التنافس في سوق مفتوح مع شركاتٍ أخرى من اليابان أو الولايات المتحدة.
تشير العديد من الدراسات إلى أن التحول الهيكلي الذي عرفه اقتصاد كوريا الجنوبية كان من خلال الإصلاحات السياسة التي تهدف إلى فتح البلاد أمام الأسواق الأجنبية. تعد سياسات كوريا الجنوبية الموجهة للتصدير إحدى أهم عوامل نجاحها: كوريا الجنوبية هي الآن واحدةٌ من أكبر عشرة مصدرين في العالم، وزادت صادراتها كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 25.9% في عام 1995 إلى 56.3% في عام 2012.
من 1954 إلى 1986، زاد قطاع التعدين والتصنيع من حصته من الناتج المحلي الإجمالي 12.0% إلى 30.2% مع انخفاض حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 44.6% إلى 13.5%.
كان يوجد أيضًا تغييرٌ سريع في هيكل التجارة الخارجية؛ في عام 1962، شكلت المنتجات الأولية ما يقرب من ثلاثة أرباع إجمالي الصادرات والمنتجات الصناعية تمثل ربع الصادرات. بحلول عام 1982 بلغت المصنوعات 94% من إجمالي الصادرات. بدأت الآلات الثقيلة والمنتجات الكيميائية لتشمل حصةً أكبر على نحوٍ متزايد في تكوين الصادرات، والوصول إلى ما يقرب من نصف إجمالي الصادرات.
هناك عاملان إضافيان ساهما في زيادة التجارة الدولية والتصنيع في كوريا الجنوبية، وهما تحسين بيئة الأعمال وسياسة تحفيز الاستثمار في الابتكار.
بيئة الأعمال والابتكار
سنلقي نظرةً حول هذين العاملين: أولًا، بيئة تجارية قوية تعزز النمو في السوق المحلية وتجذب المستثمرين الأجانب. وفقًا للبنك الدولي، تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الرابعة من حيث مؤشر سهولة ممارسة الأعمال في سنة 2018، بينما تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة السادسة.
من بين قائمة المعايير، تهيمن كوريا الجنوبية على سهولة بدء الأعمال التجارية وإنفاذ العقود. وتلعب هذه المعايير دورًا مهمًا في تشجيع الاستثمار والإنتاج والاتصال، وفي النهاية الحصول على نمو اقتصادي مرتفع وطويل الأمد.
ثانيًا، كرست كوريا الجنوبية اهتمامًا إضافيًا لتطوير التكنولوجيا والابتكار من أجل تعزيز النمو، فالابتكار والتكنولوجيا هما العاملان الرئيسيان اللذان قاما على تعزيز القدرة التنافسية لصادرات كوريا الجنوبية وكان لهما السبب في النهضة الاقتصادية الملحوظة في البلاد على مدار العقود الماضية.
الآن تنفق كوريا الجنوبية الحصة الأكبر من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير (R&D)، بنسبة أكبر حتى من الولايات المتحدة واليابان، وهما اثنان من رواد العالم في مجال الابتكار على أساس كثافة البحث والتطوير. بين عامي 1996 و2015، زادت كثافة البحث والتطوير في كوريا الجنوبية بنسبة 88.5% (من 2.24% في عام 1996 إلى 4.23% في عام 2015)، بينما نمت الولايات المتحدة فقط بنسبة 14.4% (من 2.44% في عام 1996 إلى 2.79% في عام 2015).

من أجل الحفاظ على هذا النمو الاقتصادي المستدام تحتاج كوريا الجنوبية إلى مواصلة دعمها مجال الابتكار وتوفير بيئة الأعمال الملائمة للشركات.
اليوم تُعتبر كوريا الجنوبية خامس أقوى دولة مصدرة في العالم، وحدث كل هذا بسبب اختيار الكوريين وحكام كوريا الجنوبية طريق الرأسمالية كوسيلة للتقدم عوض الاشتراكية التي تدمر الدول وتفقر الشعوب. تُعتبر تجربة كوريا الجنوبية دليلًا آخر على نجاح الرأسمالية.
– *الحرب اليابان-الصينية الأولى: كانت حرب من أجل الاستيلاء على كوريا وانتهت بانتصار اليابان على الصين في سنة 1895.
إعداد: محمد مطيع.
تدقيق لغوي: رأفت فياض.
مصادر ومراجع:
مقال مفيد جداً بارك الله فيك ياخي