كان عددٌ من “الرجعيين” و”التقليديين” و”الرومانسيين” المنتمين إلى تيار مناهضة التنوير Counter-Enlightenment ورفض القيم الليبرالية يعتقدون أن الحرب هي أساس الروح البطولية للرجل، يرتقي بفضلها وينحط بدونها، وهي التي تشكل الطبيعة الحقيقية للإنسان.
ليس هذا فقط، إنها المحرّك الأساسي للتطور البشري الذي سينهار في حالة “السلام” و”سيادة المال”، وسيتحول بسببهما المجتمع إلى حالةٍ من “الركود” و”الانحطاط”! ولكن كيف انتصرت القيم الليبرالية على خصومها وتنبؤاتهم غير المتحققة؟
الرومانسية الحربية وتمجيد الصراع على حساب السلام

“في المجتمعات القديمة، كانت طبقة الأرستقراطية المحاربة تحتل ذروة التسلسل الهرمي، بينما اليوم، في اليوتوبيا الإنسانية المسالمة (خاصة الأنجلوسكسونية منها)، تُبذل محاولاتٌ لتصوير المحارب على أنه نوع من المفارقة التاريخية، و ككيان خطير وضار سيُتخلَّص منه يومًا ما بسهولةٍ باسم التقدم”.
هذا ما قاله أحد المفكرين الفاشيين يوليوس إيفولا Julius Evola خلال القرن 20. لقد كان من المناهضين للقيم الليبرالية والتنويرية. كان أمثاله يمجدون “المحارب” لأنه يضحي بكل ما لديه في سبيل “المجد” و”الشرف”، بينما يرون “التاجر” في مرتبةٍ أقل منه ومجرّد تابعٍ للمال كتتابع الليل والنهار.
يقول رجل التنوير الفرنسي فريدريك باستيا Frederic Bastiat متحدّثًا عن تأثير الغزوات العسكرية:
“يضع كلٌّ من الرجال والنساء والأطفال أسلوب حياة الجندي فوق أسلوب حياة العامل، والحرب فوق العمل، والنهب فوق الإنتاج؛ يشترك العرق المهزوم نفسه في هذا الشعور، وعندما يتغلب على مضطهديه، يُظهر نفسَه في عملية إعادة التكيف، كما يظهر ميولًا لتقليدهم، أكثر من مجرد التخلص، وفي الواقع، يصبح هذا التقليد جنونًا”.
إن “السلام” بالنسبة لممجدي الحرب فكرةً مثاليةً ومجرّد رغبة، و مَثَلًا من المُثل الوردية التي لن تتحقق، لأن “التاريخ لم ولن يلتفت إلى الرغبات والمُثُل أبدًا”، كما يقول أوسغالد شبينغلر Oswald Spengler، بل أكثر من ذلك، لقد زاد الطين بلّةً عندما زعم هذا الأخير أنه: “كلما تطور الإنسان، ستكون هناك حروب”، ونعلم الآن بأن تنبؤه هذا قد جانب الصواب.

لقد رفضت حركة التنوير المضاد Counter-Enlightenment الافتراض بأن العنف كان مشكلةً يجبحلها، وتميزت بفكرة “الرومانسية الحربية” Romantic Militarism؛ الفكرة كما لخصها جون مولر John Mueller:
“الحرب نبيلةٌ، وراقيةٌ، وفضيلةٌ، ومجيدةٌ، وبطوليةٌ، ومثيرةٌ، وجميلةٌ، ومقدسةٌ”.

إن “الكفاح” و”سفك الدماء” بالنسبة لهم متأصلان في النظام الطبيعي، ولا يمكن القضاء عليهما دون استنزاف الحياة لحيويتها وتقويض مصير البشرية. على حدّ تعبير جوهان هيردر Johann Herder أحد الممثلين لحركة “العاصفة والإجهاد” Sturm and Drang المناهضة للتنوير:
“يرغب الرجال في الانسجام، لكن الطبيعة تعرف بشكلٍ أفضل ما هو جيد للأنواع: إنها ترغب في الصراع”.
لقد كان تمجيد الصراع في شعار “الطبيعة حمراء الأسنان والمخالب” المنتشر في الفن والكتابة في القرن التاسع عشر. يشرح آدم سميث Adam Smith عدم رضا البعض من عودة السلام:
“يستمتعون بسهولةٍ تامةٍ بقراءة الصحف في مآثر أساطيلهم وجيوشهم، ولديهم ألف أملٍ خياليٍّ في الفتح والمجد القومي من استمرار أطول للحرب، لذا يشعرون بعدم الرضا بشكلٍ عامٍ عن عودة السلام، الذي يضع حدًّا لهذه التسلية”.
من المؤكد أن عدد الرجال و”المحاربين البطوليين الرجوليين” كما يسمّونهم، كانوا يأسفون لنشوب الحرب، لكنهم قبلوا ذلك باعتباره حقيقة لا مفر منها في الحياة، مثل
الطقس! وهو أمرٌ تحدّث عنه الجميع، ولكن لم يستطع أحد فعل أي شيء حياله. على حدّ تعبير أوديسوس Odysseus:
“نحن رجال أعطانا زيوس مصير إنهاء حياتنا في حروبٍ مؤلمةٍ، من الشباب إلى أن نهلك، كلّ واحدٍ منا”.
ظهرت براعة الرجال في العالم القديم التي كانت مطبقةً بشكلٍ كبيرٍ على الأسلحة والاستراتيجية الحربية، ظهرت فارغة الوفاض عندما يتعلق الأمر بالأسباب الأرضية للحرب.
و بدلًا من تأطير آفة الحرب على أنها “مشكلةٌ إنسانيةٌ” يجب على البشر حلها، فقد ابتكروا خيال الآلهة المتهورة، ونسبوا مآسيهم إلى غيرة الآلهة وحماقاتهم، وأحيانًا إلى الفكرة الملتبسة بأن: “العنف متأصل في طبيعة الإنسان”.
كيف نظر أحد كبار الليبراليين في القرن العشرين إلى الحرب؟

من أهم الحجج التي ناهضت هذا التمجيد المجنون للحروب، هي الحجة الاقتصادية النفعية للودفيغ فون ميزس Ludwig Von Mises ضد الرومانسية العسكرية، التيقدّمها في كتابه “الليبرالية: التقليد الكلاسيكي Liberalism: the Classical Tradition”. لم يكن فريدريش فون هايك F.V.Hayek مخطئًا عندما اعتبره أحد مفكري التنوير العظماء.
يستهل الاقتصادي النمساوي الفصل الذي خصصه للحديث عن السلام بقوله:
“هناك رجال متسامحون يكرهون الحرب لأنها تجلب الموت والمعاناة؛ بغض النظر عن مدى إعجاب المرء بإنسانيتهم، يبدو أن حجتهم ضد الحرب، في كونها قائمةً على أسس خيرية، تفقد أكثر أو كل قوتها عندما نفكر في تصريحات مؤيدي الحرب وأنصارها”.
يقصد هنا، أنه من الجيد أن يعترض بعض الناس على الحرب، لكن اعتراضهم غير مبنيٍّ على أسس متينةٍ قادرةٍ على مواجهة حجج المساندين للحروب.
يوضّح ذلك: “لا ينكر هؤلاء (مناصرو الحرب) ويعترفون بأي حال من الأحوال أن الحرب تجلب معها الألم و الحزن، ولكن رغم ذلك، فإنهم يعتقدون أنه من خلال الحرب والمعركة وحدهما، يمكن للبشرية إحراز التقدم . قال فيلسوف يوناني: “إن الحرب هي أب كلّ شيء”، وكرّرها الآلاف من بعده: “ينحط الإنسان في زمن السلم”.
“فقط الحرب توقظ في الإنسان المواهب والقوى النائمة وتضفي عليه المثل العليا”. “إذا أُلغيت الحرب، فإن الجنس البشري سوف يتحول إلى التراخي والركود”.
يقول ميزس Mises بأنه من الصعب، بل من المستحيل دحض هذا المنطق من جانب دعاة الحرب إذا كان الاعتراض الوحيد على الحرب هو ما يمكن: “التفكير في أنه يتطلب تضحيات”. وهذا لأن أنصار الحرب يرون أن هذه التضحيات لم تذهب سدًى، وأنها تستحق القيام بها، إذ يمكن للمرء أن يستغني عن التضحيات، حتى أنه قد يسعى إلى تقليل عددها، ولنيكون هناك ما يبرر الرغبة في “إلغاء الحرب” و”تحقيق السلام الأبدي”.
يوضّح بعد ذلك وجه الاختلاف، ويقول: “يختلف النقد الليبرالي للحجة المؤيدة للحرب اختلافًا جوهريًا عن نقد العاملين في المجال الإنساني”. لا يقصد سابق الذكر أبدًا أن الليبرالية ليست مذهبًا إنسانيًا، بل هو الذي وصفها بأنها “إنسانيةٌ” و”عالميةٌ” عندما قال:
“إن المثالية النهائية التي تتصورها الليبرالية هي التعاون المثالي للبشرية جمعاء، و تتم بسلام ودون احتكاك؛ دائمًا ما يكون التفكير الليبرالي للبشرية جمعاء، وليس فقط لأجزاء، ولا يتوقف عند مجموعاتٍ محدودةٍ، ولا ينتهي عند حدود القرية أو المقاطعة أو الأمة أو القارة”.
ويضيف قائلًا:
“تفكيرها (الليبرالية) عالميٌّ و كونيٌّ: يستوعب جميع الرجال والعالم كله؛ الليبرالية بهذا المعنى هي الإنسانية، والليبرالي، مواطن في العالم”.
لذلك، فهو يقصد معارضي الحرب لأسبابٍ عامةٍ وسطحيةٍ وغير كافيةٍ، وهم الذين يطلقون على أنفسهم اسم الإنسانيين، ولا يتعلق الأمر بتاتًا بوضع الليبرالية في جهةٍ معاكسة للإنسانية.
يبدأ هذا النقد الليبرالي الذي عرضه في كتابه من فرضية أن “السلام”، وليس الحرب، هو أب كلّ شيء، ما يمكّن الإنسان وحده من التقدم ويميز الإنسان عن الحيوانات هو التعاون الاجتماعي.
إن العمل وحده هو المُنتِج كما يقول ميزس Mises:
“فهو يخلق الثروة، وبه توضع الأسس الخارجية لازدهار الإنسان الداخلي. الحرب تدّمر فقط، ولا يمكن أن تخلق”، يكره الليبراليون الإنسانيون الحرب، ليس ككراهية الإنسانيين الآخرين لها، لأنها ضارة.
يقدّم مثال على ذلك:
“يقترب الإنساني المحب للسلام من الحاكم القوي ويخاطبه على النحو التالي: لا تشن حربًا،على الرغم من أن لديك إمكانية تعزيز رفاهيتك بالنصر، بل كن نبيلًا، ورائعًا، وتنازل عن النصر المغري حتى لو كان ذلك يعني تضحية لك وخسارة ميزة”.
ويضيف أن الليبرالي يفكر بخلاف ذلك: “إنه مقتنع بأن الحرب هي شر حتى للقوي المنتصر، وأن السلام دائمًا أفضل من الحرب، إنه لا يطلب أيّ تضحيةٍ من الأقوى، ولكن فقط يجب أن يدرك أين تكمن اهتماماته الحقيقية، ويجب أن يتعلم أن يفهم أن السلام مفيدٌ بالنسبة له كما هو مفيدٌ بالنسبة للضعيف”.
إن مدى الضرر الذي تلحقه الحرب بتطور الحضارة الإنسانية بالنسبة له يظهر بوضوحبمجرد أن يفهم المرء المزايا المستمدة من “تقسيم العمل” the Division of Labor، وهو المبدأ الذي عززه آدم سميث Adam smith بشكلٍ جيّدٍ.
يبيّن ميزس Mises طابع حجته المبنية على الاستدلال “النفعي” و”العواقبي”: “لا يوجد شيء جيد أو سيئ في حدّ ذاته؛ تصبح أفعال الإنسان جيدةً أو سيئةً فقط من خلال النهاية التي تصل إليها و”النتائج” التي تترتب عليها”.
يرى أن الحرب تدمّر بسبب عواقبها “تقسيم العمل” بقدر ما تجبر كلّ مجموعةٍ على “الاكتفاء بعمل أتباعها”؛ التكثيف التدريجي لتقسيم العمل ممكن فقط في مجتمعٍ يوجد فيه ضمان للـ”سلام الدائم”.
فقط في ظل هذا الأمن يمكن أن يتطور تقسيم العمل، وفي غياب هذا الشرط، لا يتعدى تقسيم العمل حدود القرية أو حتى حدود الأسرة المعيشية الفردية.
على سبيل المثال يقول: “إن تقسيم العمل بين المدينة والريف -مع قيام فلاحي القرى المجاورة بتزويد المدينة بالحبوب والماشية والحليب والزبدة مقابل المنتجات المصنعة لسكان المدينة، يفترض مسبقًا أن السلام مضمون على الأقل داخل الدولة. أي المنطقة المعنية”.
إذا كان تقسيم العمل هو احتضان أمة بأكملها، يجب أن تقع الحرب الأهلية خارج نطاق الإمكانية، إذا أُريد له أن يشمل العالم كله، فلا بد من “ضمان سلامٍ دائمٍ” بين الدول.
إن تطور شبكةٍ معقدةٍ من العلاقات الاقتصادية الدولية هو نتاج “ليبرالية القرن التاسع عشر والرأسمالية”، لقد جعلا وحدهما من الممكن أن يصاحب التخصص الواسع للإنتاج الحديث التحسين في التكنولوجيا.
يقول ميزس Mises أنه من أجل تزويد رغبات عائلة العامل الإنجليزي بكل ما تستهلكه، تتعاون كل دولة في القارات الخمس، ويصور لنا هذا المشهد التالي:
“يوفَّر الشاي لطاولة الإفطار من اليابان أو سيلان أو قهوة من البرازيل أو “جافا”بالسكر من جزر الهند الغربية، واللحوم من أستراليا أو الأرجنتين، والقطن من أمريكا أو مصر، والجلود من الهند أو روسيا، وهكذا، وبدلًا من هذه الأشياء، تذهب البضائع الإنجليزية إلى”جميع أنحاء العالم”، إلى أبعد القرى والمزارع البعيدة عن الطريق”.
ويؤكد دور الليبرالية في هذا: “كان هذا التطور ممكنًا ويمكن تصوره فقط لأنه، مع “انتصار المبادئ الليبرالية”، لم يعد الناس يأخذون على محمل الجد فكرة “أن حربًا كبيرةً يمكن أن تندلع مرة أخرى”.
لكن سارت الأحداث بشكلٍ مختلفٍ تمامًا. يرى ميزس Mises في فترته أن الأفكار والبرامج الليبرالية حلّت محلها: الاشتراكية، والقومية، والحمائية، والإمبريالية، والتدين، والنزعة العسكرية. ويقول أنه “حينما مجّد كانط Kant، وفون هومبولدت Von Humboldt وبينثام Bentham وريشارد كوبدين Richard Cobden “السلام الأبدي”؛ لم يتعب المتحدثون في عصرٍ لاحقٍ أبدًا من”تمجيد الحرب”، المدنية منها والدولية”.
يختم ميزس Mises كلامه مؤكدًا عدم التوافق بين الحرب وتقسيم العمل:
“لقد جاء نجاحهم في وقتٍ مبكرٍ جدًا، وكانت النتيجة هي “الحرب العالمية”، التي أعطت عصرنا نوعًا من الدرس الموضوعي حول عدم التوافق بين “الحرب” و”تقسيم العمل”.

نعلم اليوم أن السلام عاد إلى القاعدة، وصارت الحرب فكرةً محتقرةً بالفعل! لقد جرّده “التقدّم” بليبراليته وإنسانيته ورأسماليته وتجارته من قيمها القديمة المتعالية والمجردة، كما توقع إيفولا Evola تمامًا، وحتّى نكون منصفين كان توقعه هذا هو ذرة الواقع في كلامه.
لماذا اعتقد ميزس أن مبدأ “تقسيم العمل” مرتبطٌ مع حالة السلام؟
لقد كانت القاعدة الاقتصادية للنظام الإقطاعي في العالم القديم هي الأرض والفلاحون الذين عملوا بها؛ كانت الأرض هي الشيء الوحيد الذي لا يمكنهم تحقيق المزيد منه.
في اقتصادٍ قائمٍ على الأرض، إذا أراد شخصٌ ما تحسين مستوى معيشته، أو الحفاظ عليه أثناء “التوسع السكاني المالتوسي”، فإن خياره الأساسي هو غزو المنطقة المجاورة. بلغة نظرية اللعبة، تكون محصلة المنافسة على الأرض مساوية للصفر Zero sum game: “مكاسب أحد اللاعبين هي خسارة لاعبٍ آخر”.
عكس ذلك، توجد لعبة المجموع الإيجابي Positive sum game، وهي سيناريو يكون فيه للأفراد خيارات يمكنها تحسين الكثير منهما في نفس الوقت؛ إحدى الألعاب الكلاسيكية ذات المجموع الإيجابي في الحياة اليومية هي تبادل الهدايا، حيث يمكن لكل شخص أن يمنح فائدةً كبيرةً للآخر بتكلفةٍ بسيطةٍ لنفسه أو لنفسها.
يعتقد المفكرون التنويريون أن القوة الأساسية التي قادت عملية الحضارة كانت التجارة، علىحدّ تعبير المؤرخ الاسكتلندي ويليام روبيرتسون William Robertson:
“تليّن التجارة وتصقل أخلاق الرجال؛ إنها توحدهم، من خلال إحدى أقوى الروابط، وهي الرغبةفي توفير رغباتهم المتبادلة”.
الناس، الذين ربما كانوا يكرهون بعضهم البعض، وبعبارة أخرى، جُمِعوا في “السعي لتحقيق الربح”، بحلول القرن الثامن عشر، وصل مدى التعاون البشري
في سياق اقتصاد السوق إلى مستوياتٍ شعر حتى الفلاسفة، مثل فولتير Voltaire، بأنهم مضطرون إلى التفكير فيها.
يصف الفيلسوف الفرنسي هذا الأمر:
“اذهب إلى بورصة لندن -مكان أكثر احترامًا من العديد من المحاكم، وسترى ممثلين من جميع الدول مجتمعين معًا لمنفعة البشر، هنا يتعامل اليهود والمحمديون (المسلمون) والمسيحيون مع بعضهم البعض كما لو كانوا من نفس العقيدة، ولا يطلقون إلا كلمة كافر على الأشخاص المفلسين ماليًا”.

البصيرة الرئيسية لعلم النفس التطوري هي أن التعاون البشري والعواطف الاجتماعية التيتدعمه (والتي يحتقرها الرجعي)، مثل التعاطف والثقة والامتنان والشعور بالذنب والغضب، قد اختيرت لأنها تسمح للناس بالازدهار بشكلٍ إيجابيٍّ، أي ضمن “محصلةٍ إيجابية”.
اللعبة ذات “المحصلة الإيجابية” في الحياة الاقتصادية هي “تداول الفوائض”، إذا كان لدى المزارع كميةٌ من الحبوب أكثر مما يستطيع أن يأكل، وكان لدى الراعي حليبٌ أكثر مما يستطيع أن يشربه، فإن كلاهما يتقدم إلى الأمام إذا استبدل بعض القمح ببعض الحليب، والجميع يفوز.
بطبيعة الحال، فإن التبادل في لحظةٍ واحدةٍ من الزمن لا يؤتي ثماره إلا عندما يكون هناك “تقسيم للعمل”، لن تكون هناك فائدةٌ من إعطاء مزارع مكيالًا من القمح لمزارعٍ آخر، والحصول على مكيال من القمح في المقابل.
إن الفكرة الأساسية للاقتصاد الحديث هي أن مفتاح تكوين الثروة هو “تقسيم العمل”، حيث يتعلم المتخصصون إنتاج سلعةٍ مع زيادة الفعالية من حيث التكلفة، وتكون لديهم الوسائل لتبادل منتجاتهم المتخصصة بكفاءة، ولا تبقى للعداوة أي قيمةٍ بينهم، وهذا بالضبط ما يشكّل الحجة الأساسية عند ميزس.
إن إحدى البنى التحتية التي تسمح بالتبادل الفعّال هي “النقل”، ما يجعل من الممكن للمنتجين تداول فوائضهم حتى عندما تفصل بينهم مسافةٌ.
الأشياء الأخرى هي: المال والفائدة والوسطاء، والتي تسمح للمنتجين بتبادل أنواعٍ كثيرةٍ من الفوائض مع العديد من المنتجين الآخرين في عدّة نقاطٍ زمنيةٍ. من الواضح أن “ألعاب المجموع الإيجابي” تغيّر أيضًا من دوافع العنف.
إذا كنت تتاجر في خدماتٍ أو فوائضَ مع شخصٍ ما، فإن شريكك التجاري يصبح فجأةً بالنسبة لك ذا قيمةٍ أكبر وهو حيٌّ ممّا وهو ميتٌ، علاوةً على ذلك، لديك حافزٌ لتوقع ما يريد، فمن الأفضل أن تقدمه له مقابل ما تريد.
كما يقول عالم النفس المعرفي ستيفن بينكر Steven Pinker من جامعة هارفارد:
“على الرغم من أن العديد من المثقفين يحتقرون رجال الأعمال لأنانيتهم وجشعهم، لكن تعطي السوق الحرة في الواقع أهميةً كبيرة للتعاطف”.
يجب على رجل الأعمال الجيد أن يبقي العملاء راضين، وإلّا فإنّ المنافس سوف يبتع عنهم، و كلما زاد عدد العملاء الذين يجتذبهم، سيكون أكثر ثراءً. عبّر الاقتصادي صموئيل ريكارد Samuel Ricard عن هذه الفكرة، التي أصبحت تُسمى التجارة اللطيفة Doux Commerce، في عام 1704:
“تربط التجارة الناس بعضهم ببعضٍ من خلال المنفعة المتبادلة، فمن خلال التجارة، يتعلم الإنسان أن يتدبر، وأن يكون صادقًا، وأن يكتسب الأخلاق، وأن يكون حصيفًا ومتحفظًا في الحديث والعمل. يشعر بضرورة أن يكون حكيمًا و صادقًا من أجل النجاح،ويهرب من الرذيلة، أو على الأقل يُظهر سلوكُه الحشمةَ والجدّية حتى لا يثير أيّ حكمٍ سلبيٍّ من جانب معارفه الحاليين والمستقبليين”.

يلخّص ميلتون فريدمان Milton Friedman مزايا “تقسيم العمل” بهذا الكلام:
“يعيش هؤلاء الناس في العديد من الأراضي، ويتحدثون لغاتٍ مختلفةً، وينتمون لدياناتٍ مختلفةٍ، وقد يكرهون بعضهم البعض، ومع ذلك لم يمنعهم أيٌّ من هذه الاختلافات من التعاون لإنتاج قلم رصاص، كيف حدث هذا؟ قدم لنا آدم سميث الإجابة قبل 200 عام”.
وجدت دراسةٌ أجراها روسيت Russett وأونيل Oneal أنه ليس فقط مستوى التجارة الثنائية بين البلدين ما ساهم في السلام، ولكن اعتماد كلّ دولةٍ على التجارة في جميع المجالات: بلدٌ منفتحٌ على الاقتصاد العالمي أقل احتمالًا ليجد نفسه في نزاعٍ عسكريٍّ.

ويدعو هذا إلى نسخةٍ أكثر اتساعًا لنظرية التجارة اللطيفة؛ التجارة الدولية ليست سوى جانبٍ واحدٍ من الروح التجارية للبلد. بل إنها تشمل العوامل الأخرى مثل الانفتاح على الاستثمار الأجنبي، وحرية المواطنين في الدخول في عقودٍ قابلةٍ للتنفيذ، واعتمادهم على التبادل المالي الطوعي بدلًا من الاكتفاء الذاتي، وهذا ما عزّزه أمثال مونتسكيو Montesquieu وآدم سميث Adam Smith، وبعدهما الأباء المؤسسون لأمريكا.
يبدو أن الآثار الهادئة للتجارة في هذا المعنى الواسع أقوى من الآثار الهادئة للديمقراطية، يبدأ “السلام الديمقراطي” بقوةٍ فقط عندما تكون كلتا الدولتين ديمقراطيتين، لكن آثار التجارة يمكن إثباتها عندما يكون لأي من البلدين اقتصاد السوق الحر.
في الواقع، مسألة ما إذا كان التقدّم في “السلام الدائم” قد تحقّق بعد انتصار القيم الليبرالية، ليس مسألة “تفاؤل” أو “مثالية” أو “تصور وردي بانجلوسي” أو “يوتوبيا مسالمة” كما يقولون، ولكنها مسألة “حقيقة”!

وذلك يكون بمعايرة فهمنا للعالم إلى “الواقع التجريبي” و”العقلية الكمية”. إذا انخفضت مع مرور الوقت معدلات الوفيات نتاج الحروب والمعارك، و في حال انخفضت نسبة السنوات التي كانت تقضيها القوى العظمى في التطاحن فيما بينها، سيكون ذلك هو “التقدّم في السلام”.
عندما تنظر إلى البيانات التي توضح انخفاض مستوى العنف، وتقول إن: “العنف من الجريمة إلى الحروب قد انخفض مقارنةً مع الماضي”، فأنت بذلك تصف “حقيقةً”، وتكون أكثر واقعيةً.
المراجع:
- مقتطفات لودفيغ فون ميزس Ludwig V.Mises كلها من كتابه: “الليبرالية: التقليد الكلاسيكي” Liberalism: The Classical Tradition.
- مقتطف يوليوس إيفولا Julius Evola من كتابه: “تأملات في الذُرا” Meditation On The Peaks.
- مقتطف فريدريك باستيا Frédéric Bastiat عن تأثير الغزو من كتابه: “التناسق الاقتصادي” Economic Harmonies.
- مقتطف أوديسيوس Odysseus عن مصير الرجال من: “الإلياذة” The Iliad.
- مقتطف جون مولر Jhon Mueller عن نبل الحرب من كتابه: “النزعات في الرأي العام” Trends in Public Opinion.
- مقتطف جوهان هيردير Johann Herder عن الرغبة في الصراع من كتاب: “التعليم من أجل التنوع والعدالة الاجتماعية”Teaching for Diversity and Social Justice.
- مقتطف ستيفن بينكر Steven Pinker عن تأثير السوق الحرة على التعاطف من كتابه: “الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية”The Better Angels of our Nature.
- المصدر السابق نفسه بالنسبة لدراسة روسيت Russet وأونيل Oneal عن دور التجارة في تعزيز السلام.
- مقتطف ويليام روبيرتسون William Robertson عن التجارة من كتاب: “مراجعة ديبو: التقدم والموارد الزراعية والتجارية والصناعية” Debow’s Review : Agricultural, Commercial, Industrial Progress and Resources.
- مقتطف صموئيل ريكارد Samuel Ricard عن التجارة الناعمة من كتاب: “فرانسيس فوكوياما ، الاضطراب العظيم” Francis Fukuyama, The Great Disruption.
- مقتطف ميلتون فريدمان Milton Friedman من مقال: “ليونارد ريد؛ أنا قلم الرصاص” Leonard Read , I.Pencil .
- إعداد: سامي بوعجاجة.
- تدقيق لغوي: رأفت فياض.